Tuesday, August 1, 2017

المُعلّم فنسانت فان غوغ

في أحد نصوصه الثاقبة حول فان غوغ، يُشير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الى أن ما يجذبنا استثنائياً في لوحات هذا الرسّام هو مجموع الخطوط والفواصل والحركات الحرّة، العفوية، المفاجئة، واللاإرادية التي ينبثق منها عالمه الفنّي. عالمٌ تتعدّد فيه المستويات والأبعاد، وتتحرّر العناصرُ المُشكِّلة لكلّ مشهد من الحدود الفاصلة بينها. هكذا، يصبح الحدّ بين يدٍ وطاولة مثلاً، أو بين جسمٍ وخلفيّة، أو بين أرضٍ وسماء، واهياً، تنساب الحركة عبره فتوحّد عناصرَ المشهدِ جميعِها من دون أن تُفضي بها الى التماهي الكامل.


ويقول دولوز إن الإيقاع والكثافة والألوان وما يسمّيه بالـ"دياغرام" (المُكوّن من خطوط مستقيمة أو منحنية) في أعمال فان غوغ تمنحُ السماء ونجومها نبضاً خاصاً، والأرض وما عليها استواءً يرتفع وينخفض حسب حركة اللوحة وتضاريس الأشجار والزهور ومدى الممرّات وما تفتحُ عليه النوافذُ والأبواب.
كما أن الفواصل الصغيرة التي يستخدُمها بكثافة، والتي تُربك للوهلة الأولى نظرتنا الى معظم رسومه، هي ما يحوّل فوضاه وكوارثيّته الأوليَين الى معنىً وسياق وتوازن وحياة. وهي، كما كسرُه الألوان لِبناء الأبعاد وتمييز الضوء والسِمات وسحنات الوجوه وأعماق الأشياء، ما يُعطي الانطباع بأن لوحاتِه مُقتطعةٌ من اللامتناهي، أو أنها تبني من العدم معاني ومعالمَ لها.

ولعلّ في القراءة الدولوزية هذه لفان غوغ ما شجّع مُبتكري معرضه الحالي في باريس (يوليو/أغسطس 2017) على التقديم الفنّي الاستثنائيِّ التقنية له، بحيث يعرضون أعماله كصُورٍ متحرّكة على شاشات عملاقة، متقابلة ومتفاوتة الأحجام، تتكسّر اللوحات المعروفة فيها الى وحدات، تماماً كَتكسُّر الألوان عند فان غوغ، وتتتابع المشاهد كما لو أنها فعلاً مرسومةً لتتداخل وتتمدّد واحدةٌ على حساب أخرى من دون فواصل، ومن دون ذوبان. ولا شكّ هنا، أن إقران العرض البصري هذا بمعزوفاتِ بيانو كلاسيكية (لِموزار وباخ بخاصة) يجعلُ مشروعاً التساؤلَ عمّا إذا كانت اللوحات بألوانها وأبعادها وأشكالها هي ما ينظّم الإيقاع الموسيقي أم أن العكس هو الصحيح. يصبح المعرض متعةً بصرية وسمعية خالصة، تبلغُ أقصاها كلّ ما انتشرت الألوان والرسوم والوجوه والأمكنة والأشياء والخلفيات على كامل الشاشات ثم اختفت لتعود بديلاتُها – نقيضاتها وشبيهاتها في آن – فتأخذ أمكنتها. يرافق كلّ ذلك ويوازيه تصعيدٌ في الموسيقى أو خفوت، بما يجعل المكان بزوّاره وزائراته فضاءً بديعاً مكتفياً بذاته، يتشكّل ويتلاشى بلا توقّفٍ طيلة زمن الزيارة...
زياد ماجد