Tuesday, February 24, 2015

عن حنّا بطاطو

تصعب قراءة التاريخ الحديث لكلّ من العراق وسوريا دون الاطّلاع على أعمال حنّا بطاطو. فالمؤرّخ الأميركي الفلسطيني الأصل (المولود في القدس العام 1926 والمتوفّى في كونّيكتيكت في العام 2000) كرّس عقوداً من العمل البحثي الدؤوب لدراسة البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلدين خلال القرن العشرين، وقدّم عملين موسوعيّين ثاقبين حولهما، نُشرا باللغة الإنكليزية العام 1978 ثم العام 1999. وقد صدرت مؤخّراً الترجمة العربية للكتاب الخاص بسوريا (عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات") بعد أن كانت ترجمة الكتاب عن العراق قد صدرت العام 1998 (عن "مؤسسة الأبحاث العربية").

النص التالي تعريف بعملَي بطاطو وبالمنهج البحثي الذي اعتمده لبنائهما.

عن العراق طبقاتٍ وأحزاباً وشيوعيّين

بدأ حنّا بطاطو الكتابة الأكاديمية في أواخر الخمسينات. وأنهى العام 1960 أطروحة دكتوراه بعنوان "الشيخ والفلاح: 1917 - 1958" ناقشها في جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأميركية، محلّلاً فيها العلاقات الاجتماعية وملكية الأراضي في العراق في أواخر العهد العثماني ثم في المرحلة الكولونيالية ومن بعدها خلال الحقبة الملكية. وتفرّغ بطاطو بعد الدكتوراه للتدريس (على مدى عشرين عاماً) في الجامعة الأميركية في بيروت، وللبحث المعمّق في الشؤون العراقية. وقد زار خلال الستينات والسبعينات العراق مرّات عدّة وأتاحت له علاقاتُه وسمعتُه الجامعية الحصولَ على وثائق من أرشيف الدولة العراقية ومن التقارير الداخلية للاحزب السياسية، جمعها وحلّلها وعمل من خلالها ومن خلال الكتب والدراسات المتوفّرة كما المقابلات واللقاءات التي أجراها على كتابة مؤلّف قد يكون واحداً من أبرز أعمال التأريخ التي صدرت حول المنطقة العربية. مؤلّفه الموسوعي هذا "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية الحديثة في العراق" صدر العام 1978 راصداً في ثلاثة أجزاء التاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق، مركّزاً على الطبقات الاجتماعية وتداخل تكوينها بالعناصر العشائرية والدينية والجهوية والقومية وارتباطها لاحقاً بالأحزاب السياسية في بنيتها وقواعدها الشعبية. وقد قسّم بطاطو مؤلّفه الى ثلاثة أقسام. الأول، "الطبقات القديمة"، يخصّصه لدراسة أحوال ملّاكي الأراضي والتجار وأصحاب الثروات والنفوذ في المرحلة السابقة لقيام النظام الجمهوري العام 1958. والثاني، "الشيوعيون: من بداية حركتهم ولغاية الخمسينات"، يكتب فيه عن نشأة الحزب الشيوعي العراقي وتطوّر برنامجه السياسي ومقوّماته الإيديولوجية والخلفيّات الاجتماعية لأعضائه ومسؤوليه. والكتاب الثالث، "الشيوعيون والبعثيون والضبّاط الأحرار: من الخمسينات حتى اليوم" يستكمل بحثه حول الشيوعيين العراقيين بعد قيام الجمهورية، ويبحث كذلك في التكوين الطبقي للبعثيّين وللضباط الأحرار وللعصبيات والخلفيّات الاقتصادية والاجتماعية والمناطقية التي استند إليها تعاضد مجموعات منهم خلال مرحلة الصراع على السلطة والانقلابات المتتالية بين العامين 1958 و1977.

سوريا وفلّاحوها وحزب البعث

في العام 1982، استقرّ بطاطو في جامعة جورج تاون في واشنطن واستمرّ مدرّساً وباحثاً هناك لغاية تقاعده العام 1994. في تلك الفترة وفي السنوات القليلة التي تلتها، ركّز بطاطو عمله على سوريا، وأصدر العام 1999 مؤلّفه الأخير "فلّاحو سوريا: أبناء وجائهم الريفيّين الأقل شأناً وسياساتهم". في هذا الكتاب، تابع بطاطو اعتماد منهجه التأريخي المستند الى البحث في الجذور الاجتماعية للنخب الحزبية وفي الطبقات وأدوارها في تشكيل المشهد السياسي. واتّخذ من الفلّاحين السوريين وتطوّر بناهم الاجتماعية وعلاقاتهم الاقتصادية وولاءاتهم السياسية خلال النصف الأوّل من القرن العشرين قاعدة بحثية، سمحت له في الخوض في التكوين الاجتماعي لحزب البعث وانتماءات أعضائه الطبقية وتعدّد الخلفيّات الريفية واختلافاتها داخل صفوفه. وخصّص بطاطو حيّزاً هاماً في هذا العمل لتشريح "السلطة البعثية" التي ستصبح حاكمةً لسوريا بعد الانقلاب العسكري العام 1963 والتي ستُصيبها تحوّلات وتبدّلات في العام 1966 ثم بعد العام 1970، مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة، كأول رئيس من أصول فلّاحية. وقد حلّل بطاطو تركيبة النظام في المرحلة الأسدية وخصائص بنيته الطائفية والعشائرية والمناطقية وأثر ذلك في سياساته وخياراته وأولويّاته.


في ماركسية بطاطو وفيبريّته

بنى حنّا بطاطو لنفسه منهجاً علمياً تجاورت فيه خلفيّته الماركسية، بما هي دافع اهتمام دائم بالركائز الاقتصادية الاجتماعية للأحداث وبالتحليل الطبقي للمنخرطين فيها، بفيبرية (نسبة الى ماكس فيبر) تستند في قراءتها للمجتمع وتاريخه الى التحليل الطبقي أيضاً وإنما وفق تجاوز لمحدِّداته الاقتصادية المادية نحو عناصر ثقافية وقيمية متوارَثة مؤثّرة فيه. وقد أعمل بطاطو منهجه هذا في تحليله لتاريخَي العراق وسوريا السياسيّين والاجتماعيّين الحديثين، فخاض في البنى الاقتصادية والاجتماعية كما بحث في الانتماءات العشائرية والترابية والطائفية والقومية، وذهب منها نحو السياسة والانتظامات الحزبية والصراعات على السلطة.

بهذا، جرّب بطاطو منهجاً "مُنفتحاً على المدى التاريخي" (وفق التعبير الفيبيري)، متجنّباً الجمود النظري ومخاطر إسقاطاته على الواقع أو تفتيشه عن ذرائع فيه، مُؤْثراً التجريب والتوقّف المطوّل عند التفاصيل لبناء روايته أو عمارته التاريخية. وهو إذ فعل ذلك، لم يكتف بالظاهر من الأحداث لتفسيره وربطه بخلفيّات أصحابه، بل عمد الى البحث في العملّيات التي أسماها "خفيّة". ويقول بطاطو نفسه في شرحه لنظرته الى التاريخ: "ينطوي التاريخ على عمليات خفيّة وأحداث برّانية، وهي مترابطة. العمليات الخفية تمضي بلا ضجيج، بل دون ان تُلحظ. أما الأحداث البرّانية، فقد تكون رتيبة أحياناً، ومدوّية وعاصفة أحياناً، لكنّها بيّنة في جميع الأحوال".

يبقى أن نقول إن بطاطو كتب عن عراق المرحلة الممتدّة من العام 1917 الى العام 1977، وعن سوريا الحقبة البعثية ومقدّماتها والطور الأسدي فيها وصولاً الى منتصف التسعينات. وثمة الكثير ممّا تغيّر اليوم في العراق وسوريا ونخبهما والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والديناميات الطائفية والقومية ومؤدّياتها السياسية فيهما. ولعل تأريخاً جديداً لكلا البلدين يكمل ما بدأه بطاطو صار مطلوباً لمواكبة "الخفيّ" و"البرّاني" من العمليّات والأحداث الجسام...
زياد ماجد
نصّ نُشر في الملحق الثقافي لجريدة "العربي الجديد" بتاريخ 24 فبراير 2015