Thursday, August 21, 2014

الـ"تشارك الفايسبوكي" كسلاح إشاعات

تفاقمت في الآونة الأخيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيّما الفايسبوك، ظاهرة الصوَر المقرونة بتعليقات ومواقف سياسية منسوبة الى فنّانين أو ديبلوماسيين أو شخصيات معروفة عالمياً. وإذا كان جزء من هذه الصور والأقاويل المرافقة لها يأتي من باب الفكاهة أو على أساس التأويل الصريح والمُعلن (مُوفّقاً كان أم غير موفّقٍ) لمواقف المعنيّين السياسية، فإن جزءاً آخر صار اليوم واسع الانتشار، وهو الجزء حيث التزوير طاغٍ وسوء النيّة لأهداف الدعاية سائد على ما عداه.

ونظراً لسرعة الفايسبوك المدهشة في نقل المعلومة وتداولها وتشاركها العابر للحدود وأحياناً للّغات (من خلال خدمات الترجمات الفورية)، فإن مواقع إنترنت أو مدوّنات باتت بدورها تعتمده وسيلةً لترويج نصوصها وأخبارها، مُعنوِنةً إياها على نحوٍ شديد الإثارة، أو مختارةً صوراً لافتة، على أمل الاستفادة من وظيفة الـ"Share" المُتاحة (طوعاً أو قسراً) لنشر الروابط على جدران الأفراد والمجموعات وفي الصفحات العامة.

ولعلّ المثال الأكثر بروزاً في الآونة الأخيرة للتداول الكثيف لهكذا روابط هو ذاك الذي روّج له أكثر من موقع ومدوّنة (بما جعل معرفة مصدره الأوّل عسيرة)، ثم تداوله ألوف على صفحاتهم الفايسبوكية، وفيه نسبُ كلامٍ أبله الى وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون قيل إنه مأخوذ من كتابها الصادر في يونيو الفائت "خيارات صعبة". والكلام المنحول يتناول "داعش" والأخوان المسلمين، وفحواه أن واشنطن اتّفقت مع الأخيرين على جملة أمور من ضمنها خلق تنظيم "داعش" ثم الاعتراف بالدولة الإسلامية التي أعلنها. ومن الحديث المنسوب الى كلينتون حول مصر والسودان وحلايب ومحمد مرسي، يُرجّح أن تكون الجهة المزوِّرة مصريّة تستخدم التزوير بالدرجة الأولى لأسباب سياسية داخلية...
على أنّ دلالات الأمر ومؤدّياته أهمّ من أسبابه أو من دوافع الطرف المسؤول عنه.


المؤامرة و"نسب الشرّ الى الشر"

تُشير السرعة والسعة التي انتشر فيها "الخبر" (وتعدّل وتضخّم) حول كتاب كلينتون الى مزيج من ثلاثة أمور.
الأمر الأول هو حاجة البعض المستمرّة الى نظرية المؤامرة لتفسير كلّ ظاهرة يَستصعب فهمَها أو يريد "تأكيداً" على خطرها وشيطانيّتها. هكذا، تُصبح أميركا خالقة "داعش" بالتعاون مع الأخوان المسلمين والدافعة الى إعلان "الخلافة". وهكذا تتمّ إحالة الشرّ الموضعي الى مصدر الشرور الكوني بِعُرف المُحيلين، فيصبح شرّ "داعش" الطارئ فرعاً للشر الأميركي المُستديم.
الأمر الثاني هو مدى جهل ناقلي الخبر ومتبنّيه بالحدّ الأدنى من المعايير السياسية والديبلوماسية التي تتيح لشخص في موقع كلينتون (وزيرة خارجية سابقة ومرشّحة محتملة للانتخابات الرئاسية المقبلة) أن يتحدّث بما نُسب إليه (وفي كتاب، أي في وثيقة خطّية!)، حتى وإن كان شأن النسبِ صحيحاً. فكيف وأنّ الأمرَ على ركاكة فظيعة وعلى تواريخ متعارضة، وأنّه من اليسير أصلاً الوقوع على مضمون الكتاب الفعلي من خلال مواقع رصينة كثيرة توجز الكتب أو تعرض فهارسها.
أما الأمر الثالث، فهو ما يبدو انبهاراً بخبرٍ فضائحي، حتى حين يَعدّ التعليقُ المصاحب له أن لا مفاجأة في الأمر طالما أن مصدر الشرور المألوف لم يتبدّل. بهذا المعنى، يتبدّى من نقل الخبر والتعليق عليه ذهول بخطورة الخطب، ولَو أنه لا يؤكّد وفق عُتاة الرواة وأوائل المروّجين إلّا ما هو "مؤكّد" سلفاً.

وثمة أمران إضافيّان يثيرهما نقل الشائعة رقمياً، وفايسبوكياً بالتحديد. أمر له علاقة بالصورة وبالذاكرة البصرية. وأمر ثانٍ مرتبط بالأرشفة والحفظ. ذلك أنّ تداول الإشاعات أو الأكاذيب في الماضي غالباً ما استند الى المشافهة أو الى نصوص ومنشورات تُوزّع ثم تختفي ولا يبقى منها أثر مادي. أما الإشاعات والأكاذيب المقرونة بصوَر والمتوفّرة في فضاء افتراضي يمكن استدعاؤه في لحظة وإحياء ذاكرة بصرية من خلاله، فلها أثر أعمق وحضور أقوى بكثير.
الأنكى، أن سعة انتشار الإشاعات رقمياً وبقاءها على الدوام في أرشيف لا حدود له ولا صلاحية زمنية، قد يحوّلها بعد فترة الى ما يُشبه "البداهة" أو المعلومة العادية التي تستشهد بها مقالات ويُحاجج انطلاقاً منها "محلّلون"، ويتناقلها أناس عثروا عليها في مواقع مختلفة وفي محرّكات بحث متعدّدة تُخفي مع تواتر التداول أصحابها الأصليّين. وفي هذا ما يجعلها طليقةً بلا حسبٍ أو دمغةٍ تحدّ من احتمالات الركون إليها...

الإشاعة السياسية في حلّتها الرقمية صارت إذاً نشاطاً وأرشيفاً وتواصلاً وتوريطاً لأشخاص في نقلها وتعميمها. وميزة الـ"Share" التي يُتيحها الفايسبوك تلعب في كل ذلك الدور السحري والمحوري، إذ يكفي لجزء من الثانية يستغرقه النقر على زرّ أن يختصر ساعات أحاديث ونقاشات. ثم تأتي الـ"لايك" والتعليقات لتلفت الأنظار وتجذب المزيد من الزوّار.

بهذا، تتحوّل الإشاعة في "عصر المعلوماتية" الى نميمة رقمية. ويمكن لتداولها الكمّي (أي لعدد المشاركين في نشرها وزائري الروابط الحاملة لها) أن يصنّفها في مرتبة متقدّمة في محرّكات البحث، الى جانب المصادر الموثوقة والروايات الصحيحة. لحسن الحظّ أنّ الردّ عليها لدحرها يبقى ممكناً. وهو يرتبط بالطبع بوعي قرّائها وبجهد من يعنيه تفنيدها وتفكيك الأكاذيب والتزوير في فضائها الرقمي إيّاه، حيث لسلاح الـ"Share" أيضاً دورٌ في التفكيك والترويج المضاد.
زياد ماجد