Sunday, January 19, 2014

حزب الله و"التوافقية" اللبنانية المترنّحة

منذ دستور 1926، ثم ميثاق الاستقلال الوطني العام 1943 والتشريعات التي تلته، اعتمد لبنان «الفلسفة التوافقية» في مؤسسات حكمه. وقد قامت الفلسفة هذه على أساس اقتسام السلطة بين ممثّلي الطوائف، وإقامة التحالفات السياسية العريضة واعتماد دوائر انتخابية تومّن التمثيل الأهلي المتنوّع في البرلمان، وتطبيق مبدأ الكوتا (عرفاً ثم قانوناً) في المناصب الوزارية والإدارية، إضافة الى إيثار «الإجماعات الوطنية» على «الحكم بالأكثريّة» في ما خصّ القرارات الكبرى المتّصلة بأوضاع البلاد وخياراتها الخارجية الاستراتيجية. وقد ساعدت خصائص النخب السياسية وارتباط مصالحها الاقتصادية والخدماتية بالاستقرار والاستعداد للبحث الدائم عن التسويات على توفير ظروف نجاح نسبي لـ «التوافقية» طيلة عقود. كما ساعد تفتّت التمثيل الطائفي ترابياً وتشكّل الزعامات على أسس محلّية (في المدن كما في الأرياف) على تجنّب الانقسامات العمودية عند نشوء اللوائح الانتخابية أو نشوب الصراعات السياسية.

غير أن صلاحيّات رئيس الجمهورية (الماروني) الطاغية على صلاحيّات رئيس الحكومة (السنّي) كما جمود الحصص الطائفية على رغم التبدّلات الديموغرافية أثارت مع الوقت توتّرات ومطالبات بتعديلات في الأحجام والمهمات والصلاحيّات. وجاءَ الانقسام الداخلي اللبناني حول الموقف من الناصرية الصاعدة في النصف الثاني من الخمسينات، كما حول العلاقة بحلف بغداد، ليفجّر الأوضاع جاعلاً التقاطع بين التوتّر الداخلي نتيجة الأوزان الطائفية داخل المؤسّسات والقسمة السياسية تجاه الخارج سمةً ستتحوّل بعد سنوات الى أبرز سمات الأحوال اللبنانية
.

وعلى رغم انتخاب فؤاد شهاب العام 1958 وفق معادلة «اللاغالب واللامغلوب» وعلى أساس التسوويّة المنبعثة من النظام التوافقي (ومن الاتفاق الأميركي- المصري)، وعلى رغم إجراءات شهاب الإصلاحية والتحديثية لمؤسسات الدولة وخدماتها في أكثر من مجال، إلاّ أن استمرار الخلاف الداخلي ربطاً بأحجام «ممثّلي» الطوائف وأوزانهم، والتقاءه بالخلاف حول الشؤون الخارجية التي اتّخذت من المقاومة الفلسطينية المسلّحة انطلاقاً من لبنان عنواناً جديداً لها، أعادا التأزّم والتوتّر الى المشهد اللبناني في أواخر الستينات. وبدا هذه المرّة أن التوافقية – التسوَويّة التي ظلّت الى حدّ بعيد مهيمنة على الثقافة السياسية دخلت طور التراجع نتيجة صعود اليسار على حساب السياسيّين التقليديّين المسلمين واستقوائه بالحضور الفلسطيني المسلّح لفرض تغيير النظام من جهة، وتصلّب اليمين المسيحي ورفضه الإصلاح أو التغيير واستعداده للتحالف مع النظام السوري ومع إسرائيل لمواجهة خصومه من جهة ثانية. وتراجعت بالتالي إمكانات التسويات في حقبة شهدت تحوّلات اجتماعية واقتصادية هامة، واندلعت الحرب العام 1975 وتعاقبت القوى الداخلية والمؤثّرات الخارجية فيها، وتبدّلت التحالفات، وفشل مختلف محاولات وقفها حتى أواخر الثمانينات، حين صاغ من تبقّى من نوّابِ آخر برلمان منتخَب (قُبَيل الحرب) «اتّفاق الطائف» وقوامه عودتان الى التوافقية: واحدة في تحديد «نهائية الكيان» مقابل «عروبته» (عوَض «وجهه العربي»)، والثانية في استعادة صيغة الحكم نفسها (المعتمَدة منذ 1926)، وتكريسها بعد إعادة توزيع الصلاحيات على المركزَين الرئيسيّين فيها، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة.

بهذا، أعاد «الطائف» الى التوافقية الاعتبار نظرياً، ولَو أنه جعل التحكيم بين الشركاء فيها مفتوحاً على تدخّل الأوصياء الخارجيّين، أو الوصيّ السوري الأوحد (المفوّض عربياً وأميركياً بالأمر عقب حرب الخليج الثانية العام 1991). لكنّ مسار الأمور بعد ذلك، وتحديداً من لحظة سنّ قانون الانتخاب العام 1992، بدا مُقبلاً على طعنٍ بالتوافقية وإخراجٍ لركيزة سياسية – طائفية رئيسيّة من الحُكم، عبر إقصاء القوى السياسية المسيحية الواسعة الشعبية وتصميم دوائر انتخابية تدفعها الى المقاطعة أو تحاصرها وتحدّ من قدرتها على النجاح.

وترافق الأمر مع نزوع شهده البلد للمرّة الأولى نحو أحادية التمثيل ضمن الطائفتين، السنّية مع الظاهرة الحريرية، والشيعيّة مع الثنائي «أمل» – «حزب الله». وتكرّست مع حصصهما داخل المؤسسات اللبنانية اختصاصات سياسية لكلّ منهما. فاختصّت الحريرية بالاقتصاد وإعادة الإعمار وبعض العلاقات الدولية، في حين اختصّ الثنائي الشيعي بالكثير من التعيينات الإدارية والتعويضات وبقرار قتال إسرائيل وِفق إيقاع حلفه السوري – الإيراني. أما المسيحيون بقواهم الرئيسية ففُرض عليهم اختصاص المعارضة والمقاطعة (أي العمل السياسي من خارج «الدولة»). ولم يتبدّل في المعطى المذكور شيء مع وصول قائد الجيش إميل لحود الى رئاسة الجمهورية، ولَو أن لحود قرّر مواجهة الحريرية لأسباب سورية (ارتبطت بتسلّم بشار الأسد الملف اللبناني من أبيه العام 1998 ومحاولته الإتيان بطاقم سياسي من أصدقائه) وبهدف بناء مشروعية شعبية ترى في مواجهته رئيس الحكومة استرجاعاً لصلاحيّات الرئاسة «القويّة». ولم تختلف بعد تحرير الجنوب العام 2000 المعادلة كثيراً، إذ بقيت القسمة السنّية- الشيعية بأدوار طرفيها المتناقضة طاغية. لكن الأمر سمح بإطلاق ديناميّات جديدة في البلاد، أسّست للمواجهة اللاحقة بين القوى السياسية المسيحية، ومعها القوّة الدرزية الأولى وقوى علمانية، انضمّت الحريرية الى جبهتها العام 2004 لمواجهة طغيان النظام السوري، ممّا أدّى الى اغتيال الحريري نفسه ثم الى الانتفاضة الشعبية اللبنانية الكبرى، المدعومة دولياً، ضد الهيمنة السورية في آذار (مارس) 2005. وأفضت المواجهة الى إخراج النظام السوري من لبنان بعد 29 عاماً على دخوله.


على أن ما جرى بعد 2005، أظهر أن التبدّلات التي أسّست الحرب لها ثم كرّستها الممارسات السياسية والتحوّلات الديموغرافية بعد انتهاء الحرب، إنْ في تركيبة السلطة وخصائص نخبها أو في الاستقطابات داخل الطوائف وحدّتها، لم تكن موقّتة ولا مرهونة بالحقبة السورية. فالحريرية ظلّت عصبية جامعة للأكثرية السنيّة المُصابة باغتيال زعيمها، و «الشيعية السياسية» تماسكت بعد الخروج السوري الذي كان عرّاب صعودها، واستفادت من السلاح الذي سبق ووفّره لها «اختصاصها الحربي»، واستفادت أيضاً من مزاج مسيحيّ عام (مثّله تيار ميشال عون) مال إليها لفترة باعتبارها ملاذاً واستقواءً على السنّة الحريريّين وما «انتزعوه» من صلاحيّات وأدوارٍ كان بعضها حكراً على المسيحيّين قبل الحرب.
هكذا، بدا أن طوراً جديداً من العلاقة بالفلسفة «التوافقية» قد نشأ، وفيه معطيات أتاحت التطوّرات اختبارها، وصار من الجائز اليوم استخلاص بعض العبر منها.

العبرة الأولى أن القسمة السياسية – المذهبية السنيّة- الشيعية التي يستقطب كلّ من جناحيها جزءاً من المسيحيّين لم تعد تسمح باستمرار الصيغة التوافقية على ما كانت عليه، بخاصة أن قدرة رئاسة الجمهورية (المارونية) على التحكيم أو إدارة اللعبة السياسية بين رئاسة الحكومة (السنّية) ورئاسة المجلس النيابي (الشيعية) صارت صعبة ومقيّدة باعتبارات دستورية وأُخرى ناجمة عن توازنات القوى.

العبرة الثانية أن حدّة الاستقطاب داخل الطائفتين السنيّة والشيعيّة تجعل الصدام بين الكتلتين أمراً قائماً لا يمكن التعويل على تحالفات أفقيّة (تخترق الاصطفافين) للجمه أو للحدّ منه.

العبرة الثالثة أن خصائص القيادة السياسية الشيعية مستجدّة في السياق اللبناني. فصعود «حزب الله» الطامح الى لعب دور داخلي يشبه دور النظام السوري أيام سيطرته، أي الإشراف الأمني وتقسيم الاختصاصات على القوى السياسية وحصر مهماتها ببعض جوانب الاقتصاد والعلاقات بالغرب والإدارة مقابل ترك المسألة «الحربية» والتموضع الإقليمي وقفاً عليه، هذا الصعود، يعدّل الكثير من جوانب «التوافقية». إذ فيه قسر يحصّنه ثقل عسكري وتنظيمي أقوى من «الدولة» نفسها. وفيه بعد أيديولوجي هو الأوّل في التاريخ اللبناني في اقترانه بالطائفية، وهو يجعل الدينَ عنصرَ هويّة سياسية وأفقَ مشروع «جهادي» يتخطّى الطائفية وشبكات ولائها وزبائنيّتها المعهودة. كما أنّه يرتبط بالجمهورية الإسلامية الإيرانية عضويّاً ومن منطلق عقائدي وعسكري، على نحو يختلف عن ارتباطات خصمه «تيّار المستقبل» بحلفائه الخارجيّين (السعودية تحديداً)، حيث العلاقة وثيقة لكنها غير إيديولوجية، ويختلف أيضاً عن ارتباطات جميع قوى الحرب الأهلية سابقاً بعرّابيها أو مموّليها الخارجيّين. وهذا البُعد الأخير في العلاقة بالخارج هو من مَقاتل «الفلسفة التوافقية» إذ يجعلها عرضة لصراعات تتخطّى حقل عملها التسوَوي المُفترض وتُطيح قدرتها على احتواء التوتّرات مؤسّساتياً.

العبرة الرابعة أن ترسانة سلاح «حزب الله»، التي كانت معلَم «الاختصاص» الشيعي في وجه إسرائيل، صارت جزءاً من آليات الضغط التي يستخدمها الحزب داخلياً. فبعد أيار (مايو) 2008 وكانون الثاني (يناير) 2011 واستخدام السلاح مباشرة في بيروت وجبل لبنان أو التلويح به لتعديل التوازنات الداخلية وإسقاط الحكومة وفرض الأمر الواقع، لم يعد من الممكن الحديث عن «توافقية» سياسية، ولَو عرجاء.

والعبرة الخامسة أن سلاح «حزب الله» منذ انــــخراطه في حرب جديدة صيف 2012، وهي حرب نظام الأسد على أكثرية الشعب السوري، صار شديد التأثير في الطائــــفة السنيّة نفسها. فهو مدعاة إضعاف تدريـــجـــي لخصومه الحريريّين «المعتدلين» مقابل تعزيز ردود أفعال لدى مجموعات ترى في التطرّف المذهبي والبحث عن التسليح المضاد سبيلاً للردّ عليه وإحقاق توازن الــرعب معه. وهو استجلاب للصراع السوري الى الأرض اللبنانية مع ما يعنيه الأمر من مضاعفات واحتمالات أهوال لا يمكن لبنان تحمّلها. وما التطوّرات خلال الأشهر الماضية إلاّ دليل على هذا المستجد، الذي قد يجعل استمرارُه لبنانَ برمّته، وليس نظامه السياسي فحسب، ركاماً أو حطاماً.

هكذا، تسير الأمور منذ سنوات نحو أفول للنظام التوافقي المترنّح، من دون بحث عن بدائل له. وهكذا أيضاً يجرى دفع لبنان نحو سيناريو فوضى سياسية وأمنية لا كوابح لها. وحتى لو تشكّلت حكومة جــديدة في الأيام المقبلة، لن يكون في مقـــدورها إعادة إحياء التوافقية. فالخيارات الـخارجية يفرضها «حزب الله» بالسلاح، بعيداً من الدولة ومؤسّساتها وما يُفترض بالتسوويّة والإجماعات الوطنية أن توفّره. ومُستلزمات الأخيرة لم تعد شرطاً للعلاقات الداخلية وصناعة أولويّاتها. ولا يبدو أن شيئاً سيتغيّر في المستقبل القريب إلا إذا كان نتيجة أوضاع إقليمية، ليس اللبنانيّون في أي حال من المقرّرين في مساراتها...
زياد ماجد