Tuesday, June 5, 2012

حوار مع زكريا تامر وقصص من مهمازه

أتمنى قبل رحيلي أن أقعد في مقهى دمشقي وأشتُم بصوت عالٍ كل المسؤولين السوريين
من دون أن أشعر بالخوف أو أخشى الاعتقال

ولد زكريا تامر في دمشق عام 1931، وعاش في حاراتها الشعبية حيث عمل منذ سن مبكّرة في الحدادة وفي مهن يدويّة عرّفته مسالكها بمجتمعه وبالناس من حوله وظروفهم وعقليّاتهم المختلفة.
في العام 1957، قرّر الانخراط في عالم الكتابة، واختار القصّة القصيرة مذهباً أدبياً له.
وابتداءً من العام 1960 ولغاية العام 1978، ثم بين العامين 1994 و2005، صدرت لتامر عدّة مجموعات قصصية منها "صهيل الجواد الأبيض" و"ربيع في الرماد" و"الرعد" و"دمشق الحرائق"، و"النمور في اليوم العاشر" و"نداء نوح" و"سنضحك" و"الحصرم" و"تكسير ركب" و"القنفذ". كما صدرت له أعمال قصصية للأطفال، أبرزها "لماذا سكت النهر" و"قالت الوردة للسنونو".
عالجت معظم قصص تامر قضايا اجتماعية وسياسية (وإنسانية) ذات صلة بالواقعين السوري والعربي بأسلوب سرديّ أخّاذ ولغة ساخرة ومخيّلة مدهشة في مخزونها، وبغير تقليد. ولعل وصف الشاعر محمد الماغوط له يختصر جانباً من جوانب سيرته المستمرة، إذ يقول عنه: "بدأ زكريا تامر حياته حداداً شرساً في معمل، وعندما انطلق من حي البحصة في دمشق بلفافته وسعاله المعهودين ليصبح كاتباً، لم يتخلّ عن مهنته الأصلية، بل بقي حداداً وشرساً ولكن في وطن من الفخار، لم يترك فيه شيئاً قائماً إلا وحطّمه، ولم يقف في وجهه شيء سوى القبور والسجون لأنها بحماية جيدة!"....
في شهر كانون الثاني الماضي، قرّر زكريا تامر، المقيم في أوكسفورد في بريطانيا منذ العام 1981، خوض غمار "الفايسبوك"، فأنشأ صفحة "المهماز" وراح ينشر عليها يومياً نصوصاً تستكمل مسيرته الأدبية (بأبعادها السياسية والثقافية)، مواكباً الثورة السورية بأسلوبه البديع.

النص التالي هو حوار معه يصدر بالفرنسية في ملحق "لوريان الأدبي" (L’Orient Littéraire)، تليه ستّة نصوص منتقاة من "المهماز"، إضافة الى قصة "النمور في اليوم العاشر".
زياد ماجد
----------

ز.م.: عبّرت كتاباتك، قصصك القصيرة، بأسلوبها الأدبي ولغتها والبعد الرمزي فيها عن مواقف واضحة من قضايا الحرية والعدالة والمساواة والسلطة والتسلّط، من دون وعظ أو "حِكم" مباشرة. ولعلّك تعرف أن قصة "النمور في اليوم العاشر" أضحت، إضافة الى كونها مادة دراسية في الكثير من المقرّرات التعليمية في المدارس في أكثر من بلد، عنواناً للبحث في مسائل القمع والترويض والمواطنة ومسألة التطبيع مع الاستكانة و"العادة". كيف وازنت في عملك بين المستوى الفني وبين الالتزام الانساني؟ ولماذا اخترت هذا المذهب الأدبي؟

زكريا تامر :  من يرغب في ابتكار أي جديد في مجال العلم، ينبغي له أن يطلع على كل ما أنجزه العلماء من ابتكارات حتى يتمكن من إضافة ما هو جديد إذا كان من الخلاقين المبدعين.
وأزعم أني قبل أن أحاول الكتابة قد قرأت معظم ما تشتمل عليه المكتبة العربية من كتب مؤلفة أو مترجمة، ولم أقرأ الكتب الأدبية فقط بل قرأت كتباً متنوعة الموضوعات.. سياسية وفكرية واقتصادية وعسكرية وحتى الكتب ذات الموضوعات المتعلقة بالزراعة وشؤونها لم أهملها وحظيت بقدر كبير من اهتمامي، ولكن قراءاتي كانت قراءة من يمتلك معدة سليمة قادرة على هضم كل ما يفد إليها من طعام وتحويله إلى مادة تقوي الجسم وتنميه، وكان ما قرأته هو الأرض الصخرية التي انطلقت منها كي أكتب على الورق رؤيتي للإنسان والحياة محاولاً التعبير عن صوتي الخاص لا أن أكون صدى لأصوات الآخرين معتقداً أن الأديب حين يكون مجرد صدى، يفقد مسوغ وجوده كأديب، ويصبح استمراره في الكتابة نوعاً من جرأة غير مستحسنة لا تخلو من وقاحة وغباوة.
وعندما بدأت كتابة القصص لم أحاول التقليد أو الخضوع لأساليب سائدة.. كتبت ما أطمح إلى قوله مؤمناً بأن ما يُظن بأنه غير واقعي هو الواقعي بحق، وكنت حين أكتب قصة ما، أتمتع بحرية أفتقدها في عالم الحياة اليومية، فتحاول قصصي ألا تعترف بأية حدود بين مختلف العوالم، فلا حدود بين الموت والحياة والوهم والتخيل والحلم والخيال والواقع الشديد القسوة، وهذا الإلغاء لتلك الحدود هو في رأيي من أهم ما حققته في قصصي لأنه الأصدق في تصوير الأعماق الخفية لتلك المخلوقات البشرية التي تعيش على سطح الأرض العربية.


ز.م. : إكتشفنا بفرح منذ ستة أشهر، صفحة على الفايسبوك عنوانها "المهماز"، مخصّصة لكتاباتك المواكِبة للثورة السورية ولربيع الحرية السوري. لماذا الفايسبوك؟ وكيف ترى تجربتك في هذا العالم الافتراضي-الواقعي حيث تتفاعل مباشرة مع القرّاء-الأصدقاء ومع الأحداث والصور، وحيث تصلك التعليقات و"اللايكات" وتردّ عليها أحياناً؟

زكريا تامر : ما إن بدأ الكومبيوتر في الانتشار عربياً حتى بادرت إلى استخدامه، ولكن استخدامي له كان محدوداً، واقتصر على الكتابة وقراءة الجرائد والمجلات والبحث عن معلومات والإطلاع على الجديد من الأخبار، ولم أقترب من المدونات أو الفايسبوك أو تويتر بل نفرت منها بسبب الاستخدام العربي لها إذ حولها إلى تبادل للهراء والتمادي في التفاهة الصلفة.
وعندما خرج السوريون إلى الشوارع مطالبين بالحرية والتغيير لم تكن لي آنذاك أية صلة بأي وسيلة إعلامية، ولم تتصل بي جريدة أو مجلة أو إذاعة أو محطة تلفزيونية لمعرفة رأيي وموقفي مما يحدث، وتجاهلني مدمنو العرائض، ولم تعرض علي أية عريضة حتى أني اقتنعت أن ثمة تنفيذاً دقيقاً لمخطط مدروس غايته إلصاق أشخاص معينين بالثورة السورية، وليست غايته التعريف بمواقف الشخصيات السورية الأساسية في مجالات الثقافة والأدب والفن والسياسة.
باختصار وجدت نفسي محروماً من كل فرصة للتعبير عن موقفي المؤيد للثورة السورية، وهو موقف بديهي بالنسبة إلي وامتداد لما كتبته طوال خمسين سنة، فلم أجد مهرباً من اللجوء إلى الفايسبوك، وتلاءمت معه بسرعة إلا أني لم أستخدمه للحوار والنقاش بل استخدمته كوسيلة لنشر ما أكتبه من نصوص سواء أكان قصيراً أم طويلاً كأني أتعامل مع جريدة أو مجلة، وأشعر الآن في صباح كل يوم بأني أصدر جريدتي اليومية الصغيرة التي أنشر فيها ما أشاء من دون رقابة أي رقيب، ومن دون أن تستغلني أية جهة من الجهات.
ويجب الإعتراف بأن الفايسبوك قد نجح في مباغتتي، فقد جعلني أحياناً أشعر أنه أرض ليست أرضي، وأني شيخ وقور ذو عمامة ولحية مدعو إلى سهرة صاخبة ماجنة ملأى بالسكارى ومدمني المخدرات، فثمة صفحات مغرقة في تفاهتها وسوقيتها وابتذالها وتحظى بالرواج الهائل والمعجبين، ولكن ثمة صفحات أخرى جادة جديرة بالاحترام والتقدير تعبر عن الوجه الجميل الوضاء للإنسان العربي.
الفايسبوك عرفني إلى أصدقاء جدد رائعين أعتز بهم، ويساعدني حالياً على معرفة الناس وآرائهم ومشاعرهم، وتلك المعرفة لا غنى عنها لأي كاتب، وهي الزاد والوقود. أما التعليقات حول ما أكتبه، فلا يزال معظمها متسرعاً يجلب إلي الإحساس بأني في مستشفى مجانين حقيقي، فمن السهل القول لك إنك عبقري زمانك، ومن السهل أيضاً القول لك إنك خائن بعت نفسك لقاء حفنة من الدولارات.
وثمة أمر يفرحني هو أن غالبية أصدقائي في صفحة "المهماز" هم من الشبان.

ز.م. : ما الذي تثيره الثورة السورية فيك؟ هل هي مبعث للدهشة؟ وهل تغيّر علاقتك بسوريا وبناسِها؟

زكريا تامر : جوابي عن هذا السؤال قد يبدو متناقضاً، فالثورة السورية أدهشتني، ولكنها في الوقت نفسه لم تدهشني البتة، وهذا التناقض يرجع سببه إلى أني مؤمن بأنه لا وجود لمواطن سوري يؤيد هذه السلطة الغاشمة، ولكن كل مواطن سوري هو شخصان، شخص خفي يكره النظام المهيمن الكره الأعمى ويزدريه ويتمنى زواله السريع، وشخص آخر علني يؤيد النظام الحاكم ويمدحه ويطيع كل توجيهاته، وقد نجحت الثورة في توحيد هذين الشخصين في شخص واحد شديد الصلابة، متأهب للموت في سبيل ما يؤمن به، ولا مطلب له إلا الحرية والخلاص من الاستبداد.
ومن المؤكد أن علاقتي بسوريا سيطرأ عليها بعض التبدل غير المرئي بعد أن أثبت الشعب السوري بتضحياته أنه شعب خارق لا يلام المبدع إذا تفاخر بانتمائه إليه.

ز.م.: قلتَ لي منذ مدّة إن النمور تبقى نموراً. هل تظنّ أن يوماً حادي عشر يمكن أن يُضاف (اليوم) الى أيام النمور العشرة؟

زكريا تامر : يخيل إلي أن إضافة أي يوم جديد إلى الأيام العشرة هو إضعاف للقصة وشرح لها يسيء إليها فنياً، فما سيقال في اليوم الحادي عشر قد قيل في الأيام العشرة حين اختير النمر بطلاً للقصة، والنمر في عالم السيرك هو المفترس الذي لا يروض، وكل نجاح في ترويضه هو نجاح مؤقت.

ز.م. : هل ترغب بالعودة للعيش في دمشق إن سقط الاستبداد؟ وهل تخشى صعود تيارات الإسلام السياسي؟

زكريا تامر : السبب الظاهري لتركي دمشق هو منعي من النشر في داخل سوريا وخارجها، ولكن السبب الأعمق والأساسي هو أن معركة دامية نشبت قرب بيتي بين رجال المخابرات وعضو مطلوب من الإخوان المسلمين، وعندما نفدت ذخيرته، أقدم على تفجير جسده بقنبلتين يدويتين، وظلت أشلاؤه أكثر من ساعتين مرمية على أرض الشارع، ورأيت أطفالاً يلعبون بقطع اللحم الممزق ويتقاذفونها بأقدامهم، عندها شعرت أني أعيش في عالم أعجز عن فهمه، ولا صلة لي به، وأفضل ما أفعله هو الفرار منه. وهذا ما أقدمت عليه غير آسف أو نادم.
ليس مهماً أن أبقى في أكسفورد أو أعود إلى دمشق. ما هو مهم هو أن تتحرر سوريا من هذا النظام الوحشي الذي شوه المخلوقات البشرية وأفسدها فساداً لا نظير له.
أما التيارات الإسلامية، فلا أخشى صعودها ما دام الناس قد اختاروها، فإذا أخطأوا في الاختيار، فهم الذين سيدفعون ثمن خطئهم.

ز.م. : ما الذي تتمنّاه في المقبل من الأيام؟

زكريا تامر : كنت دائماً رجلاً يعيش بغير أمنيات، ويكتفي بأن يعيش اليوم تلو اليوم من دون تخطيط، ولكني اليوم وأنا في الحادي والثمانين من العمر أتمنى أن يتاح لسوريا أن تتحرر من الاستبداد والرعب اللذين تحكما بها طوال خمسين سنة.. أتمنى قبل رحيلي أن أقعد في مقهى دمشقي وأشتُم بصوت عالٍ كل المسؤولين السوريين مسؤولاً مسؤولاً من دون أن أشعر بالخوف أو أخشى الاعتقال.




نصوص من "المهماز"

آمين
استسلم علاء الدين العواد للنوم بعد أرق طويل، ورأى في نومه زوجته عفت تتجول في الشوارع حاسرة الرأس بغير حجاب، فاستنكر ما رآه استنكاراً أيقظه من نومه، ولم يجد عفت بجواره، فترك سريره، وبحث عنها، فإذا هي في المطبخ تعدّ طعام الإفطار. وشرع علاء الدين في تناول طعامه عابس الوجه بينما كانت عفت قاعدة قبالته ساهمة النظرات تمضغ اللقمة على مهل كأن طعامها لقمة واحدة فقط ولا تنوي أكل غيرها، ولم تنتبه إلى عبوس وجهه ولم تسأله عن سببه، ولاحظ علاء الدين أن أصابعها تتلمس وجهها مستغربة كأنه ليس وجهها، فتخلى عن صمته، وكلّمها معنفاً متهماً، وأخبرها بما يعرف عنها، فنظرت إليه بدهشة قائلة : ما تراه في نومك يختلف عما أراه في نومي، ففي كل مناماتي أرى نفسي خادمة كلما اشتغلت في بيت طردت منه بحجة أنها كسلانة. فازداد عبوس علاء الدين، وقال لعفت بصوت مهدد : افتحي آذانك المسدودة واسمعي. إذا رأيتك مرة ثانية بلا حجاب، فسأغضب، وأنت تعرفين ماذا تفعل يداي حين أغضب. فشحب وجه عفت، وابتدأت منذ ذلك اليوم لا تنام إلا محجبة، ولم يتمكن علاء الدين من ضبطها مرة بغير حجاب، وقد أحبّت عفت منديلها الأسود السميك الذي يغطي وجهها إذ يتيح لها أن تبكي من دون أن يراها أحد، ورغبت في البكاء طويلاً وهي تحوص في بيتها الضيق، ولكن عينيها لم تذرفا أية دمعة، وحاولت أن تقول لعلاء الدين العائد من عمله إنها تبغضه ولا تطيقه وتقرف منه، ولكنها قالت له بصوت متهدج إنها اشتاقت إليه، وكل ساعة من ساعات غيابه مرت كأنها سنة، فابتسم علاء الدين بمكر، وسألها عما تريده، فأجابت فوراً أن ما يريده تريده، فضحك مزهواً، وشاركته عفت في الضحك من دون أن تعلم السبب الذي دفعها إلى الضحك، ولكنه باغتها بأنه يريد منها ألا تتكلم مذكراً بأن الصوت أيضاً عورة، فأطاعت عفت ولم تعد تتكلم، فسرّ علاء الدين، وسرّ أكثر عندما أنجبت عفت العديد من الأولاد، ولم تنجب أناثاً، ولكنه لم يسر بالصمت الذي لا يفارق أولاده.

محاولة لوصف أحدهم
كان جندياً في جيوش هولاكو، ودعا زملاءه الجنود إلى إحراق كل كتاب يعثرون عليه قائلاً لهم إن قتل الرجال والنساء والأطفال هو جزء من مهنة الجندي وواجب لا مهرب من تنفيذه، أما قتل الكتب، فهو هواية تجلب الدفء والمتعة، وصاح بصوت متهدج : وهل هناك أجمل من التفرج على أفكار تُشوى وتتلوى متوجعة؟

سحاب طائش
عطش الناس، وعاتبوا السحاب لأن أمطاره لا تهطل إلا فوق قصور المهيمن على الأرض وسكانها، فقال السحاب لهم : ماذا أفعل؟ هل تريدون أن أنتهي سجيناً في زنزانة أو متدلياً من حبل مشنقة؟
فتناسى الناس عطشهم، وضحكوا طويلاً مؤكدين للسحاب أنه لا توجد على سطح الأرض قوة قادرة على معاقبته، ورأى السحاب بعد تفكير قصير أن الناس ربما كانوا غير مخطئين، وانهمرت أمطاره سخية فوق الناس أجمعين، ولم يطوقه حبل مشنقة ولم يتمكن أحد من اعتقاله.

نهايات مختلفة
يحترق الحطب، فلا يترك وراءه غير الرماد البارد.
يحترق الثائر، فيوقد ناراً تمحو الأسلاك الشائكة المزروعة بين مواطن ومواطن وتخلق القبضة المؤهلة لدحر الوحوش المهيمنة وحفر اللحود الملائمة لها.
يحترق الطاغية، فيستعيد كل مواطن وجهه الإنساني المفقود منذ عقود، وينبت الياسمين في دماء الشرايين.

العائدون الى وسائدهم
اشتاق الأطفال الصغار إلى أبيهم الذي طال غيابه، وسألوا أمهم عنه، فأجابت الأم : سيعود أبوكم إليكم وسترونه كل ليلة في نومكم حين تنشق الأرض وتبتلع الرئيس الذي أمر بقتله
فتساءل أكبر الأطفال سناً : وهل تنشق الأرض؟
.فأجابت الأم : هناك رجال يشبهون أباكم سيجعلون الأرض تنشق

رئيسنا المقبل
الشعب السوري غاضب يطالب رئيسه بالتنحي والرحيل، والسيد الرئيس راغب في تقديم استقالته والاختفاء، لكن تأخرّه يرجع الى اسباب انسانية، فابنه البالغ من العمر تسع سنوات عومل منذ أن كان يحبو على أنه سيصبح رئيساً، وسيعدّل الدستور حتى يتاح له أن يتسلم الرئاسة في سن العاشرة، ولو قيل للطفل اليوم إنه لن يصبح رئيساً لبكى وصاح: جدي كان رئيساً وأبي كان رئيساً. ومن المركد أنه سيصاب بعقد نفسية لا علاج لها، وهذا أمر لا يقبله أي إنسان شريف.



النمور في اليوم العاشر

رحلت الغابات بعيداً عن النمر السجين في قفص، ولكنه لم يستطع نسيانه، وحدق غاضباً إلى رجال يتحلقون حول قفصه وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف وكان أحدهم يتكلم بصوت هادئ ذي نبرة آمرة: إذا أردتم حقاً أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنها مهمة صعبة وسهلة في آن واحد. 
انظروا الآن إلى هذا النمر: إنه نمر شرس متعجرف، شديد الفخر بحريته وقوته وبطشه، ولكنه سيتغير ويصبح وديعاً ومطيعاً كطفل صغير.. فراقبوا ما سيجري بين من يملك الطعام وبين من لا يملكه، وتعلموا.
فبادر الرجال إلى القول إنهم سيكونون التلاميذ المخلصين لمهنة الترويض.

فابتسم المروض مبتهجا، ثم خاطب النمر متسائلا بلهجة ساخرة: كيف حال ضيفنا العزيز؟ قال النمر: أحضر لي ما آكله، فقد حان وقت طعامي.
فقال المروض بدهشة مصطنعة: أتأمرني وأنت سجيني؟ يالك من نمر مضحك!! عليك أن تدرك أني الوحيد الذي يحق له هنا إصدار الأوامر.
قال النمر: لا أحد يأمر النمور.
قال المروض: ولكنك الآن لست نمراً. أنت في الغابات نمر. وقد صرت في القفص، فأنت الآن مجرد عبد تمتثل للأوامر وتفعل ما أشاء.
قال النمر بنزق: لن أكون عبداً لأحد.
قال المروض: أنت مرغم على إطاعتي؛ لأني أنا الذي أملك الطعام.
قال النمر: لا أريد طعامك.
قال المروض: إذن جع كما تشاء، فلن أرغمك على فعل ما لا ترغب فيه.
وأضاف مخاطباً تلاميذه: سترون كيف سيتبدل؛ فالرأس المرفوع لا يشبع معدة جائعة.
وجاع النمر، وتذكر بأسى أيامًا كان فيها ينطلق كريح دون قيود مطارداً فرائسه.

وفي اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر، وقال المروض: ألست جائعاً؟ أنت بالتأكيد جائع جوعاً يعذب ويؤلم.. قل إنك جائع فتحصل على ما تبغي من اللحم.
ظل النمر ساكتاً، فقال المروض له: افعل ما أقول ولا تكن أحمق.
اعترف بأنك جائع فتشبع فوراً.
قال النمر: أنا جائع.
فضحك المروض وقال لتلاميذه :ها هو ذا قد سقط في فخ لن ينجو منه.
وأصدر أوامره، فظفر النمر بلحم كثير.

وفي اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعاماً، فنفذ ما سأطلب منك.
قال النمر: لن أطيعك.
قال المروض: لا تكن متسرعاً، فطلبي بسيط جداً . أنت الآن تحوم في قفصك، وحين أقول لك: قف، فعليك أن تقف.
قال النمر لنفسه: إنه فعلاً طلب تافه، ولا يستحق أن أكون عنيداً وأجوع.
وصاح المروض بلهجة قاسية آمرة: قف.
فتجمد النمر تواً، وقال المروض بصوت مرح: أحسنت.
فسر النمر، وأكل بنهم، بينما كان المروض يقول لتلاميذه: سيصبح بعد أيام نمراً من ورق.

وفي اليوم الرابع، قال النمر للمروض: أنا جائع فاطلب مني أن أقف.
فقال المروض لتلاميذه: ها هو ذا قد بدأ يحب أوامري.
ثم تابع موجهاً كلامه إلى النمر: لن تأكل اليوم إلا إذا قلدت مواء القطط.
وقلد مواء القطط، فعبس المروض، وقال باستنكار: تقليدك فاشل.
هل تعد الزمجرة مواء. فقلد النمر ثانية مواء القطط، ولكن المروض ظل متهجم الوجه، وقال بازدراء: اسكت.. اسكت.. تقليدك ما زال فاشلاً. سأتركك اليوم تتدرب على مواء القطط، وغداً سأمتحنك. فإذا نجحت أكلت أما إذا لم تنجح فلن تأكل. وابتعد المروض عن قفص النمر وهو يمشي بخطى متباطئة، وتبعه تلاميذه وهم يتهامسون متضاحكين.
ونادى النمر الغابات بضراعة، ولكنها كانت نائية.

وفي اليوم الخامس، قال المروض للنمر: هيا، إذا قلدت مواء القطط بنجاح نلت قطعة كبيرة من اللحم الطازج.
قلد النمر مواء القطط، فصفق المروض، وقال بغبطة: عظيم! أنت تموء كقط في شباط.
ورمى إليه بقطعة كبيرة من اللحم.

وفي اليوم السادس، وما إن اقترب المروض من النمر حتى سارع النمر إلى تقليد مواء القطط، ولكن المروض ظل واجمًا مقطب الجبين، فقال النمر: ها أنا قد قلدت مواء القطط.
قال المروض: قلد نهيق الحمار.
قال النمر باستياء: أنا النمر الذي تخشاه حيوانات الغابات، أُقلد الحمار؟ سأموت ولن أنفذ طلبك!
فابتعد المروض عن قفص النمر دون أن يتفوه بكلمة.

وفي اليوم السابع، أقبل المروض نحو قفص النمر باسم الوجه وديعا، وقال للنمر: ألا تريد أن تأكل؟
قال النمر: أُريد أن آكل.
قال المروض: اللحم الذي ستأكله له ثمن، انهق كالحمار تحصل على الطعام.
فحاول النمر أن يتذكر الغابات، فأخفق، واندفع ينهق مغمض العينين، فقال المروض: نهيقك ليس ناجحاً، ولكني سأعطيك قطعة من اللحم إشفاقاً عليك.

وفي اليوم الثامن، قال المروض: سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي صفق إعجاباً.
قال النمر: سأصفق.
فابتدأ المروض إلقاء خطبته، فقال: "أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر" .
قال النمر: لم أفهم ما قلت.
قال المروض: عليك أن تعجب بكل ما أقول، وأن تصفق إعجاباً به.
قال النمر: سامحني أنا جاهل أُميٌّ وكلامك رائع وسأصفق كما تبغي.
وصفق النمر فقال المروض: أنا لا أحب النفاق والمنافقين ستحرم اليوم من الطعام عقاباً لك.

وفي اليوم التاسع جاء المروض حاملاً حزمة من الحشائش، وألقى بها للنمر، وقال: كل، قال النمر: ما هذا؟ أنا من آكلي اللحوم.
قال المروض: منذ اليوم لن تأكل سوى الحشائش.
ولما اشتد جوع النمر حاول أن يأكل الحشائش فصدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزاً، ولكنه عاد إليها ثانية، وابتدأ يستسيغ طعمها رويداً رويداً.

وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة.