Sunday, May 13, 2012

هيمنة الطوائف

يتكرّر القول بإحباط يصيب الجماعات الطائفية في لبنان، ويتموّه كل فترة فيُسمّى حرماناً حيناً، وتحجيماً أحياناً وتهميشاً أحياناً أخرى. هكذا، عاش الشيعة قبل الحرب "مرحلة حرمان"، ثم مرّ السنّة خلال الحرب "بِقطوع التحجيم" واستقرّ المسيحيون بعدها على "الإحباط"، فيما خشيت الطوائف الصغرى وما زالت "الذوبان" في بحور الأكثريات والوقوع ضحية "القوانين المجحفة" والانتخابات المقلقة.

المشترك في جميع هذه الحالات هو كيانية الطائفة الأكثر أهمية من كيانية الدولة نفسها، وهي كيانية سمحت عند كل أزمة كبرى الى تحوّلات في خصائص التمثيل السياسي للطوائف في النظام ومؤسساته الدستورية والخدماتية، والى مطالبات بتعديل أحجام الحصص والصلاحيات فيه "رفعاً لِضيم" أو "استعادة لصلاحيات" أو غير ذلك من شعارات.

ويمكن القول إن مسار التمثيل السياسي للكتل الطائفية في لبنان راح منذ بداية السبعينات يتجّه للتركّز في قوة واحدة تصعد نتيجة شعور بالاستهداف أو بحثاً عن هوية تستند الى الانتماء الطائفي أو تحسيناً لشروط التفاوض أو التصادم. وقد بدأ الأمر مع بشير الجميل في الطائفة المسيحية، وبالأخص المارونية، ثم حاول ميشال عون الاستمرار فيه. وحصل أيضاً في الطائفة الشيعية مع موسى الصدر وحركة أمل ثم تبلور مع حزب الله، وحصل كذلك ولو بطريقة مختلفة داخل الطائفة السنية مع رفيق الحريري، ثم وريثه سعد. كما أنه ازداد حدّة في الوسط الدرزي بعد تركّز النفوذ والزعامة في البيت الجنبلاطي وتراجع الثنائية الجنبلاطية اليزبكية.
وإضافة الى الطابع الحربي في بعض الأحيان وما يتضمّنه من تحجيم للخصوم داخل الطائفة قبل الانتقال للصدام مع باقي الطوائف، ارتدى مسار هيمنة قوة واحدة أو محاولتها الهيمنة على طائفتها طابع توسيع للزبائنية وللخدماتية في العلاقات وتوظيف لها بغية توسيع القاعدة الناخبة أو الموالية، والدفاع عنها (وعن حصصها). كما أنه ارتدى - في علاقة واضحة مع ما يمليه نظام التوافقية السياسي من ضرورة الاتفاق على أحجام مشاركة في السلطة – طابع الاحتشاد الشعبي انطلاقاً من الانتماء الطائفي تأييداً للنخب المطالبة بحصص أكبر لطوائفها.


وقد نتجت عن كل ذلك، كما غذّته وسرّعت من مساراته، مؤسسات ولغة تعبوية وثقافة تفرض السيطرة أو عملية الهيمنة داخل الطائفة الواحدة.
من هذه المؤسسات، المؤسسات الدينية التي تؤمّن الغطاء المعنوي وتمنح البُعد الرمزي للطرف المُهيمن، وتنظّم جانباً هاماً من العلاقات الاجتماعية في بلد تمرّ جميع قوانين الأحوال الشخصية للمواطنين عبر محاكمها الشرعية. ومنها أيضاً، بعض المؤسسات التعليمية والتربوية وبعض الجمعيات الكشفية والترفيهية والصحية والاستهلاكية، وجميعها تبني علاقات مع الأولاد والمراهقين وتؤسس لاستقطابهم بعد سنوات.
وعلى صعيد اللغة والمصطلحات والخطاب السياسي، ملكت كل القوى الصاعدة للهيمنة على طوائفها وسائل إعلام، بدأت بالنشرة ثم بالجريدة وانتقلت للإذاعة لتصل الى البث التلفزيوني والأفلام الدعائية  (إضافة الى مواقع الانترنت). والوسائل هذه جميعها تخلق لغة ووعياً مشتركين وترسم للأحداث سيناريوهات محدّدة وتبني للخصم صورة معينة تسهم في تدعيم الثقافة المهيمنة وفي توسيع نفوذ القوّة الطائفية المسيطرة أو الساعية للسيطرة.
ولعل الفرز المذهبي الذي عرفته أكثر المناطق اللبنانية بسبب الحرب وذاكرتها وخطوط تماسها سهّل عمليات السيطرة السياسية الثقافية داخل الطوائف، إذ أن التماثل صار يسيراً بحكم التواصل الجغرافي والعيش في نطاق مذهبي مشترك تتشابه فيه العادات والتقاليد وتتكرر الشعارات ويمكن الوقوف على ثقافة الطرف الطائفي المهيمن عليه من خلال التماثيل وصور الشهداء والشعارات الدينية وأسماء المحلات والمطاعم وغيرها من مظاهر الانتساب الى جماعة أو موالاتها. وهي مظاهر ترسم حدود المناطق أيضاً وحدود القوى المسيطرة عليها.

ويمكن الجزم أن كل هذه القضايا اتّخذت مع حزب الله بعداً غير مسبوق في الاجتماع السياسي والطائفي اللبناني، إذ أن الحزب تخطّى في مأسسته وفي خطابه كما في قدرته التعبوية وإمكاناته المالية وعلاقاته الخارجية وفي امتلاكه السلاح والإعلام وسلطتهما كل حد وكل مستوى كانت قد بلغته القوى الطائفية قبله...

ونتيجةً لكل ما ذُكر، يبدو مفهوم "الهيمنة" في شقّه الخاص باعتناق الجمهور للخطاب المهيمن ولثقافة الجهة المهيمنة سائداً فعلاً داخل الطوائف، على الأقل من حيث علاقته ببلورة الموقف السياسي والتكتّل والشعور بالانتماء والأمان. وهذا في ذاته ترسيخ للفرز الطائفي وتكريس له بوصفه الفرز الوحيد بين المواطنين الممكن تمثيله داخل المؤسسات وفي مختلف مستويات الحكم والإدارة.

لكل ذلك، لا تبدو أولوية الكيانات الطائفية على الدولة مفاجئة، ولا يكفي التباكي أمامها أو هجاؤها لمواجهتها. فثمة علاقات ومفاهيم يجب البحث في تفكيكها أو تعديلها، وثمة تشريعات وقوانين إصلاحية يجب طرحها وتجديد العمل لإحقاقها. وهذا في ذاته شأن آخر، وبحث لم يعُد من مفرّ منه للمعنيّين به...
زياد ماجد