Tuesday, May 15, 2012

هيمنة الطوائف - 2

أثارت بعض الردود على مقالتي السابقة في ناو ليبنانون "هيمنة الطوائف"، إن على الموقع هنا أو في مواقع التواصل الإجتماعي، عدداً من الأمور التي يفيد رُبّما التوقّف عندها.

الأمر الأوّل هو ما يبدو ميلاً عند فئة من القرّاء الى إيثار العنف اللفظي في المقالات على محاولات التشخيص المجرّدة من محمولات الأحكام القِيمية. بهذا المعنى، فإن كيل الاتهامات أو الانتقادات الى طرف يبدو أحياناً أكثر جذباً من محاولات تفسير جوانب من الظواهر التي تؤدّي الى صعوده. وهذا إن سرى على حزب الله هنا، فهو يسري حكماً على خصومه في مقالات أو زوايا أخرى. والأمر يشير طبعاً الى استمرار الاحتقان السياسي والمذهبي في لبنان على نحو يسمح بجولات توتّر جديدة، نرى في طرابلس جانباً منها، ويشير أيضاً الى التعوّد على لغة سياسية هجائية صارت هي القاعدة وما عداها استثناء.

الأمر الثاني، أن بعض القرّاء يخلطون بين الكيانات الطائفية بما هي كيانات إجتماعية-سياسية وبين القوى السياسية الطائفية التي تظهر كل فترة وتنحو نحو الهيمنة على طوائفها خلال الأزمات استعداداً لمواجهة القوى الطائفية الأخرى أو الاتفاق معها على تسويات وحصص سياسية وإدارية وخدماتية. وهذا الخلط يسبّب مقارنات ومفاضلات لا تستقيم علمياً بين مراحل تاريخية وبين طوائف النخب السياسية التي تسيّدت كل واحدة منها. ويجب أن يوضح المرء هنا أن الكيانات الطائفية في لبنان نشأت مؤسساتياً خلال القرن التاسع عشر مع قانون الملّة العثماني ثم من خلال التنظيمات، وتكرّس حضورها خلال الانتداب الفرنسي لتأخذ منذ الاستقلال ولغاية اليوم أشكالاً دستورية وقانونية وليس فقط اجتماعية أو سياسية. في حين أن الأحزاب والنخب الطائفية هي مجموعات تصعد أو يخفت حضورها وفق الظروف وقواعد اللعبة السياسية، ويمكن تقييم أدائها ومواقفها انطلاقاً من خطابها الثقافي والسياسي وممارساتها، وانطلاقاً من تحالفاتها ومن الظروف التي أنتجتها. بهذا المعنى، يصبح حزب الله، على ما ذكرنا في المقالة السابقة، الطرف الأكثر حشداً لعناصر الفرز الطائفي والمذهبي والأكثر قدرة على التعبئة والإنفاق المالي والهيمنة الايديولوجية والعسكرية بين القوى الطائفية التي عرفها لبنان. كما أنه الأكثر عضوية في تحالفاته الخارجية بين القوى اللبنانية الرئيسية جميعها سابقاً وراهناً التي لم يخلُ صعود أيّ منها من اتّكاء على حليف من خارج الحدود. لكن هذا لا يعني، كما يرغب البعض، تنظيم مسابقات في المديح أو السّباب تتعدّى السياسة لتصل الى الكتل البشرية الطوائفية ذاتها. ففي هكذا مسابقات (لا تعنيني شخصياً)، غالباً ما يعبّر "الحكّام" أو مدّعي التحكيم عن طائفية تفوق كل نزعة سياسية أو عقلانية في تقييمهم.


الأمر الثالث، هو أن بعض الردود المتغنّية بالمرحلة التي سبقت الحرب الأهلية اللبنانية تكرّر بداهات لا يشكّ عاقل فيها، من نوع أن الأوضاع كانت أفضل قبل الحرب من تلك التي سبّبتها الحرب وما تلاها من سنوات الهيمنة المخابراتية السورية! لكنّها سرعان ما تدخل في لعبة المقارنات على نحو تبسيطي وبأحكام عنصرية تجاه الفلسطينيين أو العرب محمّلة إياهم مسؤولية التدهور. هذا علماً أنه من وجهة نظر الديمقراطية التوافقية التي تُعدّ صيغة الحكم اللبنانية، تتوزّع القوى السياسية والطائفية قبل الحرب مسؤولية تردّي الاوضاع بنسبٍ مختلفة، كلٌ لأسباب قد يراها "وجيهة". فمَن كان في الحكم مثلاً، إذا ما استثنينا جزئياً الحقبة الشهابية، رفض منذ الخمسينات إصلاحات جدّية للنظام وحاول إلحاق البلد بمحور إقليمي (حلف بغداد) لم يكن الجزء الآخر من اللبنانيين من مريديه، كما أنه عدّ المسّ بالصيغة مسّاً بالكيان نفسه طيلة الستينات والسبعينات، معطّلاً المحاولات السياسية الجدّية لاستيعاب التوتّرات والتبدّلات الديموغرافية في البلاد وما تُمليه من تعديلات في بعض الحصص السياسية. وفي المقابل، اندفع المعارضون للحكم نحو الصدام معه مستسهلين الأمر خلال اللحظة الناصرية، ثم عقب وصول المقاومة الفلسطينية، معتبرين أن رفضه الإصلاح وتوسيع المشاركة في الحكم يُتيح عزله وقهره والاستقواء بالظروف الإقليمية عليه. وقد أدّى الموقفان الى تحوّل الصدامات الى حروب بعد فقدان الكوابح المؤسساتية الكفيلة بإدارة الأزمات. وكان لتعاظم الأدوار الخارجية، الاسرائيلية والسورية منها بخاصة، أن حوّل لبنان الى رهينة ضعف إجماعاته الوطنية ووهنه الداخلي، وصراعات المنطقة ومحاورها التي تجد فيه ساحة تصفية حسابات وتبادل رسائل. ولم يتغيّر منذ سنوات التشخيص كثيراً رغم تبدّل الفاعلين الداخليين والخارجيين وتغيّر التحالفات وخصائص النخب السياسية.

يمكن أن نستخلص من الأمور المذكورة أننا نحتاج في لبنان اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، الى توسيع البحث في تجاربنا وفي أسباب الوصول الى الوضع الراهن، بمعزل عن "توزيع العلامات" والهروب من المسؤوليات واعتماد الزجل خطاباً سياسياً. وهذا لا يعني بأي شكل مساواة الأطراف المحليّين اليوم ولا حلفائهم الخارجيين بالمسؤولية عن التوتّر والاحتقان الراهن. فمن يملك السلاح والصواريخ ويرهّب بها ليس كمن يتلقّى الترهيب، تماماً كما أن المندفع في سياسات هيمنة إقليمية ليس مثل الخائف على حضوره حتى ولو تساويا بُعداً عن الديمقراطية واحترام الحرّيات. والموقف السياسي بعد التشخيص يستند الى هكذا عوامل ليبني نفسه، من دون أن يُغفل التعقيدات أو المسائل المركّبة التي يجب الخوض فيها أيضاً ولو وفق أولويّات (ومن ضمنها إصلاحات سياسية لا تُرضي اليوم أغلب القوى الرئيسية، من قانون الانتخاب الى قضايا اللامركزية الإدارية واستقلالية القضاء، وصولاً الى قوانين الأحوال الشخصية وحقوق المرأة، مروراً بالسياسات المالية والاقتصادية، وانتهاءً بالحقوق المدنية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين وتجريم انتهاك المعاهدات الدولية في ما خصّ اللاجئين عامة والعاملات والعمّال الأجانب بخاصة).

في أي حال، للبحث صلة أو صلات ينفعنا قدرٌ ما من النأي عن الصخب واستسهال الأحكام، لِولوجها...
زياد ماجد