Tuesday, January 17, 2012

النّسبية المُغيّبة

ترتدي مسألة "النسبية" في الانتخابات التشريعية في لبنان أهمية لا يسلّط الضوء على مختلف جوانبها كفاية، لتواطئ ضدّها يجمع معظم القوى السياسية الرئيسية، غبر الراغبة في خسارة استئثارها بتمثيل طوائفها.
والنسبية، الى منحها كل قائمة انتخابية عدد مقاعد متناسب مع نسبة الأصوات التي حصلت عليها من مجموع المصوّتين، تساعد على خلق ديناميات جديدة في الحياة السياسية أو على تشجيع  أدوار الكثير من تشكيلات المجتمع المدني المغيّبة. إذ هي تتيح للأحزاب والحركات المنتشرة وطنياً (من دون ثقل جغرافي أو طائفي خاص) ولتكتلات المدافعين عن مصالح اجتماعية أو بيئية وعن قضايا نقابية ومهنية، وللمدافعين عن حقوق المرأة وحقوق الانسان وعن الهيئات الثقافية أو الاقتصادية، التكتل في لوائح قد تحصل على نسب معينة من الأصوات فتتمثل بعدد من النواب في البرلمان، وتنقل بالتالي برامجها السياسية والقطاعية الى الحيز التشريعي والرقابي.

وربطاً بذلك، تحدّ النسبية من سيطرة ما تعورف على تسميته بالمحادل الانتخابية القادرة، كل في منطقة ثقلها، على إلغاء منافسيها. فرغم أن قدرة المحادل على الفوز لا تتأثر مع اعتماد النسبية، إلا أنها عوض حصولها على كامل المقاعد ضمن دائرتها الانتخابية، تفوز بنسبة معينة توازي حجم أصواتها (60 أو 70 أو 80 في المئة)، تاركة مجال التمثّل للآخرين وفق أحجامهم التصويتية أيضاً. وفي هذا ما يكسر احتكار تمثيل الطوائف والمناطق، وما يخفّف بالتالي من حدّة القسمة المذهبية في التحالفات السياسية.

ونظام التمثيل النسبي يحدّ أيضاً من إمكانية التزوير، أو بالأحرى يقلّل من فاعلية التزوير، إذ أن تعديل نتيجة أو إضافة بضعة أصوات كفيلة في نظام أكثري بسيط بإسقاط مرشحين وإنجاح آخرين، تصبح غير ذي قيمة فعلية في إطار تمثيل نسبي: فنِسب الأصوات تحدّد أحجام التمثيل ويصعب بالتالي تعديلها جذرياً إلا إذا جرى التلاعب بألوف الأصوات. وهذا عادةً صعب تقنياً.


من فضائل النسبية كذلك، أنها تسمح بأن يأخذ تجاوز الطائفية، وهو من أهم التحديات الإصلاحية المطروحة أمام اللبنانيين، بعداً إجرائياً. ذلك أن التمثيل النسبي يحاكي اللاطائفيين وخيارهم "الديموقراطي"، ويطمئن في الوقت عينه المتخوّفين من طغيان أكثريات طائفية وإقصائها الأقليات باستحالة تحقّق تخوّفهم. فكل أقلية، طائفية كانت أم سياسية أم مناطقية أم قطاعية، قادرة على الدفاع عن حضورها إن اضطرت لذلك والتكتل والحصول على نسبة معينة من الأصوات توازيها نسبة معينة من المقاعد، تمنع خطر تعرضها للإقصاء.
وقد يأخذ البعض على ذلك أنه يشجع التقوقع لحشد الأصوات ذات اللون الواحد لتحصيل المكاسب، والجواب أن هذا بالضبط هو ما يجري اليوم في النظام الأكثري البسيط في بعض الدوائر الكبرى، لكن من دون قدرة المتقوقعين على التأثير، مما يزيدهم تقوقعاً وشعوراً بالغبن إذ تحدد أكثريات ممثليهم وتلغي بالتالي خياراتهم. هذا علماً أن استحداث مجلس شيوخ وِفق تمثيل طائفي تُناط به القضايا الكيانية أو السيادية، يُضعف التحجّج بضرورة إبقاء الطائفية شرطاً شارِطاً للتمثيل النيابي.

إضافة الى ما ذُكِر، يمكن للنظام النسبي التشجيع على رفع مستوى المشاركة في الانتخابات، لسبب مفاده أن العديد من المستقيلين من السياسة أو المقاطعين الانتخابات، أو حتى المقترعين فيها إنطلاقاً من مبدأ التصويت الفعال أو المفيد، يقومون بذلك لشعور بالعجز عن التغيير أو الاختراق أو النجاح في ظل أكثريات بسيطة تحجب عن مرشحيهم كل إمكانيات الفوز.
ومن غير المبالغ فيه القول إن في اعتماد النسبية ما قد يحفّز ناخبين على تعديل سلوكهم الانتخابي، والأهم، ما قد يدفع كثراً من المواطنين المنكفئين عن الانتخابات الى المشاركة بحماسٍ فيها.

المدخل الأبرز للإصلاح السياسي في لبنان إذن، هو قانون الانتخاب. وهو اعتماد النسبية في هذا القانون، جزئياً – وِفق نظام مركّب شبيه بما اقترحته اللجنة الوطنية التي ترأّسها فؤاد بطرس – أو كلّياً على أساس المحافظات أو الدوائر الشبيهة بها والمُعاد تقسيمها على أسس إدارية جديدة. وبِلا هكذا مدخل إصلاحي لا أمل بأي تعديل يُصيب الخريطة السياسية ويُتيح حراكاً جديداً أو محاولات جدّية لتعديل النِصاب السياسي القائم، العَليل وغير القابِل للشفاء.
زياد ماجد