Tuesday, June 29, 2010

عنصرية

ثمة قضايا في لبنان تشي بقباحات لا يمكن وصفها أو تحليل مباعثها من دون مساءلة طبيعتها العنصرية.
- من هذه القضايا قضية حجب الحقوق المدنية والاجتماعية عن اللاجئين الفلسطينيين وعزل مخيّماتهم والتحجّج ببعض الجماعات المسلّحة فيها وفي قواعد خارجها بهدف التحريض ضدّهم، مع العلم أن هذه الجماعات غالباً ما تأسّست وترعرعت في أحضان مخابراتية لا علاقة للفلسطينيين أنفسهم بها، أو هي ظواهر تعبّر عن عمق التأزم السياسي والثقافي والاقتصادي في بعض أوساطهم. وهو تأزّم ليس خاصاً بهم ولا هو حالة معزولة عن تأزمات شبيهة في المجتمع اللبناني وفي المجتمعات العربية.

Tuesday, June 22, 2010

نوستالجيا

ثمة حنين في الكثير من الأوساط الثقافية العربية اليوم لأربعينيات القرن الماضي، أي للمرحلة التي تلت الاستقلالات الوطنية وسبقت بداية الانقلابات العسكرية.
فالمرحلة تلك عرفت أنظمة ذات نخب مدينية حملت بعض الانفتاح في مجال الحريات العامة والخاصة وبعض الاهتمام بعلوم الإدارة والديبلوماسية والاقتصاد وغيرها من مستلزمات بناء الدول وتدبّر شؤونها، ولو أنها صدّت باب الارتقاء الاجتماعي وضيّقت هوامش المشاركة السياسية من دون أن تلغيها أو أن تعتمد العنف السافر وسيلة لمنع تطورّها وارتقائها.
والأنظمة هذه كانت على الأرجح قابلة للإصلاح، ببطء، لو لم تُطح بها الانقلابات الحاملة نخباً تستظل بشعارات العدالة والحرية (ثم بشعار تحرير فلسطين) لتأجيل البحث في كل تحديث وتغيير داخلي ولقمع التعبير عن كل مساءلة أو معارضة، مكرّسة مسلك استبداد واحتكار نفوذ وإعمال قتل على نحو استثار ردوداً تبحث عن قتل مضاد أو عن استقالة تامة من "السياسة" وابتعاد عن كل مستلزماتها.

وإن كان لبنان قد اختلف عن محيطه في تلك السنوات لجهة تجنّبه الانقلابات وحالات الطوارئ وأنظمة السجن السياسي، إلا أن حروبه الأهلية اللاحقة المعطوفة على الصراعات الإقليمية عبره فعلت فعلها لجهة تهشيمه وتمكين نخب جديدة من البروز فيه، هي بدورها تدفع كثراً اليوم الى الترحّم على من سبقوها وسبقوا الحروب والصراعات التي أنتجتها
بهذا، يسهل تبرير التحسّر على حقبة اغتيلت قبل أن يُسمح لها بالتطور والتبدّل، ويمكن تبرير النوستالجيا الى مرحلة بدت مفتوحة على كثرة من الاحتمالات قبل أن تأتيها قوانين الطوارئ وهتافات التعظيم والتخوين أو نيران الحروب لتنهيها وتدخلها وقسماً من أبنائها في غياهب السجون والنسيان... والحنين.
زياد ماجد

Tuesday, June 15, 2010

أخيراً... المونديال

إنطلق كأس العالم لكرة القدم منذ أيام، لتصبح مبارياته حديثاً يتقدّم السياسة والسياسيين ويهمّش الاصطفافات التقليدية محوّلاً إياها الى اصطفافات حول كرات وشباك ولاعبين.
إنطلق المونديال ليحرّرنا من رتابة وليعيد تحريك النبض إثارة وحماساً مع هدف هنا وتمريرة جميلة هناك.
وانطلق كأس العالم ليجعل ملياراً من البشر أو أكثر متشابهين في انفعالاتهم، ولو للحظات، بمعزل عن عروقهم وأديانهم وطبقاتهم ومصائب بعضهم أو أفراح بعضهم الآخر. يُطربون معاً للعبة ساحرة أو لاهتزاز شباك، ويتحسّرون سوياً لإهدار فرصة أو ارتكاب خطأ ويتأفّفون جماعةً من حكم أو من مدرّب، فتنضبط أوتارهم الصوتية في أداء "كوراليّ" منسّق وتتحرّك أكتافهم وأذرعتهم برشاقة صعوداً أو هبوطاً أو تلويحاً أو أسفاً.

هي لوحة شعبية ترسمها كرة القدم كل أربع سنوات، ذوّاقوها هم صانعو ألوانها، وهم أنفسهم "أصحابها". لوحة تزداد تألّقاً حين تتراقص على أنغام حبّ لدوران كرتها، ويُغنيها أن تُنسج في بلاد هي خبزها الثاني. وإذ تقام هذا العام في جنوب أفريقيا، بلاد القضاء على "الأبارتيد" وبلاد التحدّيات والآمال العريضة، فهي تكتسب أبعاداً جديدة إذ تحوّل المدرّجات التي كانت على مدى عقود ممنوعةً عن أكثر أهل البلاد الى ملتقى للأقوام والأعراق والى مكان لتكريس انتهاء كل فصل وكل تمييز
... شهر إذن من الفرح والخيبات الجميلة سيمرّ علينا سريعاً. شهر من الطقوس أمام الشاشات أو في الملاعب سيعطي الناس استراحة من أمور كثيرة. لن تعكّره لا سماجة "الفوفوزيلا" (أو الزمامير المصدرة أصوات الفيلة) المغطّية أحياناً على أصوات الجمهور وآهاته، ولا بُعد المتفرجين النسبي عن أرض الملاعب وعن جماليات تشابك أياديهم بأيادي اللاعبين.
المهمّ أن نعيش المونديال حتى آخره بمتعة وشغف وشماتة وغيرة وقلق، وأن نخاطب اللاعبين وكأنهم أصدقاء نمون عليهم ونوجّههم، نفرح لفرحهم ونغضب لغضبهم ونحزن لحزنهم.
والأهمّ، أن نُبقي على هذا الرابط البديع الذي يتسبّب بابتسامة صباحية عند سماع تعليق في الشارع يعيد عبره مجهول تركيب مَشاهد الأمس كما رآها أو كما تمنّى رؤيتها، فنجيبه بإيماءة الموافِق أو بكلمة ترطّب خاطره وتتمنى له ولنا ظفراً قادماً...
كل مونديال وأنتم بخير.
زياد ماجد

Friday, June 11, 2010

حقاً كيف أضعتَه يا فواز؟


كتب فواز طرابلسي في ملحق السفير الثقافي في 4 حزيران 2010 مقالاً عنوانه: سمير قصير... كيف أضعتُك؟

والمقال، الى استذكاره حميميّات بين صديقين (أو بين "أب وابنه" على ما يورد الكاتب)، يخوض في قضايا سياسية ويسرد "وقائع" أقلّ ما يقال فيها افتقادها للدّقة وإسقاطها للأساسيات.
وإذ أسمح لنفسي بالردّ لتوضيح بعض الأمور، فلأنني كشاهد عليها وشريك فيها أخالف فوازاً في الكثير من مجرياتها وآسف فعلاً لتحويره بعض مساقاتها.

في قتل سمير
هو لأمر مستغرب أن يخلو نصّ فوّاز من أي إشارة الى كون سمير قد أُعدم في سياق معركة سياسية واضحة المعالم كان الرجل أبرز كاتب وناشط سياسي فيها، وأن إضاعته التي يناجيها كانت نتيجة اغتيال وحشي افتتح مرحلة رعب وقتل في بيروت أطفأت ربيعها القصير الذي كرّس سمير له وقته وجهده وعقله.
وخلوّ النص من كل إشارة الى الجريمة ليس تفصيلاً إن عُطِف على إدانة فواز في النص نفسه للذين اختصروا بحسبه سميراً بكتاباته الأخيرة. ولا أدري إن كان في ذلك إدانة منه أيضاً لمن يبنون اتّهامهم السياسي للقاتل على أساس مضمون الكتابات هذه، خاصة وأن التذكير بكتابات سابقة (عن اليسار والمقاومة الوطنية والقضية الفلسطينية وهجاء الحريرية) يأتي وضعاً لها في مواجهة لاحقاتها، وحُكماً من فواز بأن من لا يذكرها إنما "يزوّر" سميراً، ويُعيد تركيب مواقفه لتوظيفها. وفي حكمه هذا العجب، وهو ما سأتوقف عنده تالياً.


في اختلاق التناقضات
يقول فواز إن من يسمّيهم "ورثة الزور" و"شهود الزور" (!) وضعوا "انتماء سمير الفلسطيني النضالي في مواجهة انتمائه السوري"، وإنهم اختزلوا كتابات الراحل بالمقالات التي كتبها في "سنواته الأخيرة القليلة".
لن أناقش في عبارتي "ورثة الزور" و"شهود الزور" ولا في من هم المقصودون بهما (عائلته؟ المؤسسة الحاملة اسمه؟ بعض أصدقائه ممّن بقوا أيضاً رفاقه في السياسة؟ الطلاب والشباب الموزّعين صوره وكلماته؟ أم سواهم ممّن لم يسمّهم؟) ولا أعتقد أصلاً أنه يليق بفواز أن يستخدم تعابير مشابهة لهما بإطلاق مبهم وبغير توضيح. لكنني سأتوقّف عند مسألة الهويتين الفلسطينية والسورية، وعند ما يسمّيه فواز بكتابات السنوات الأخيرة.
فاستنكاره وضع انتماء سمير الفلسطيني في مواجهة انتمائه السوري استنكار مُستنكَر ليس لبلادة الفكرة وضبابيتها فحسب (فعن أي انتماء سوري يتحدّث فواز؟ عن الانتماء الى سوريا ديمقراطية محرّرة من الاستبداد كما كتب عنها سمير، أم الى سوريا النظام والعسس؟)، بل لكونها نقيض مواقف سمير ذاته. فمعارضة الأخير للنظام السوري تنطلق أولاً من فلسطينيته (أو من "عرفاتيّته" كما يقول "الممانعون") ثم من لبنانيّته. ووضع انتمائه الفلسطيني في مواجهة "النظام السوري" هو ما يجمعه بالمئات من جيل فواز في الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية اللتين يشير إليهما في نصّه! أكثر من ذلك، فإن انتماء سمير السوري دفعه الى مواقفه الاستقلالية اللبنانية. ألم يكن يردّد – عن خطأ أو عن صواب - أن خروج النظام السوري من لبنان سيخرجه من سوريا؟ فأين التزوير في ذلك؟ ومن هو المزوّر؟
أما اعتبار فواز أن كتابات سمير في "النهار" (من العام 1994 وحتى العام 2005) وفيها ما يقارب ال500 مقالة هي "كتابات سنواته الأخيرة القليلة" فهو طريف ومحزن في آن. طريف لأن هذه المقالات وتلك السنوات تفوق المرحلة الباريسية التي يسهب فواز في ذكرها، والقول إن التركيز عليها طمس لما سبقها في "مجلة الدراسات الفلسطينية" و"الموند ديبلوماتيك" أو رافقها في "اللوريان أكسبرس" محزن لأن المرء يحار كيف يبرّره فواز. فهل كان سمير في كتاباته السابقة (ومنها ما نُشر في "اليوم السابع" الفلسطينية أيضاً، ومنها أطروحته الجامعية عن "حرب لبنان") مختلفاً في ما خصّ النظام السوري والموقف منه عمّا كتب لاحقاً وعلى مدى 11 عاماً في بيروت؟ وهل نقد الحريرية اقتصادياً وثقافياً يتناقض مع الاستقلال اللبناني (والسوري!) عن حكم المخابرات؟
عجيب فعلاً كل هذا البحث عن تناقضات وهمية يعدّها فواز مدخلاً لاستعادة سمير من "مصادريه" ومزوّريه، أو ربما مخرجاً له هو من أمور كثيرة!



في "عروض" اليسار الديمقراطي وطائفيّته
يفتعل فواز في مقاله نقاشاً مع اليسار الديمقراطي خالطاً فيه السنوات والمواقف. وإن كنت غير مهتم بالدفاع عن أدبيات اليسار الديمقراطي وبياناته "الرسمية" وعن مسار التنظيم بعد العام 2006 وآرائي منه مكتوبة، وانسحابي من قيادته ثم استقالتي من عضويته معروفتان، إلا إنني معنيّ بتوضيح أمور سبقت تأسيسه ورافقته، وكان لي إسهامات فيها (أعتزّ بها تماماً كما أعتز بمشاركة اليسار في "انتفاضة الاستقلال" في شباط وآذار عام 2005).
يتحدّث فواز عن مرحلة تأسيس حركة اليسار والعروض له بالانضمام الى قيادتها ويتحدّث عن الخلافات مع سمير وكأنها وليدة لحظة التأسيس تلك. وهو في ذلك ينسى أن افتراقه السياسي عن سمير وعن آخرين جرى قبل ذلك بسنوات، وتحديداً عام 1998، حين دافع هو عن خطاب القسم للرئيس إميل لحود ورأى فيه وعداً إصلاحياً ينبغي إتاحة الفرصة له كي تُعرف صدقيّته وجدّيته، في وقت عارضه سمير وساجل ضده وضدّ تعديل الدستور وضد صعود المكوّن العسكري والأمني في السلطة اللبنانية. وينسى فواز أيضاً أن هذا الافتراق تكرّس عام 2000 حين شارك سمير (والياس خوري وكاتب هذه السطور) في تأسيس "المنبر الديمقراطي"، في وقت كان هو – فواز – يؤسّس مع نجاح واكيم والحزب الشيوعي وعدد من القوى السياسية "التجمع الوطني للإنقاذ". وإن كان الافتراق المكرّس لم يحل دون الالتقاء على موقف مشترك خلال الحرب في العراق عام 2003 (تمايز فيه فوازّ عن "التجمع")، إلا أن العمل لتأسيس اليسار الديمقراطي عام 2004 أنهى الالتقاء من جديد نتيجة موقف فواز النقدي من هذا العمل. أما كيف أتته العروض بالانضمام الى قيادة الحركة الناشئة (والتواصل معه ودعوته كانا بالفعل يُتداولان في أكثر الاجتماعات التحضيرية بوصفهما ضرورة) ففي الأمر التباسات غير مهمة في التواريخ والأشخاص، ولكنها في أي حال لم تكن على علاقة بتآمر على مناصب وإبعاد لأحد عنها. فما يسمّيه بالقيادة وقتها كان يمكنها الاتساع بسهولة له وللشباب الجامعي الذين يدّعي أن قبوله بالانضمام كان لِيبعدهم...
أما قوله إن مؤسسي اليسار الديمقراطي اختصروا الاستقلال اللبناني بالعداء لسوريا، وإنهم ليبراليون اقتصادياً يغازلون الطائفية، ففيه تسطيح لا علاقة له بالوثيقة التأسيسية لليسار وقد يكون نتيجة نقاشات خاضها مع بضعة أشخاص قبل سنوات من التأسيس أو بعده وأراد تعميمها على العشرات (والمئات) غيرهم ممّن يعرفهم أو لا يعرفهم.


في التهمة الإسرائيلية؟
لا أعتقد أنه كان يجدر بفواز طرابلسي أن يختم مقاله بإقحام إسرائيل في خلافه مع "ورثة سمير قصير"، وأن يلاقي بذلك ماكينة التخوين والاتهامات (والدعاوى) المُساقة بحق المؤسسة الحاملة اسم فقيده. فما معنى القول بافتقاده سميراً حين أدرجت "مؤسسة سمير قصير" إسرائيل ضمن الدول المشاركة في "مسابقة سمير قصير لحرية الصحافة"؟ ألا يعرف فواز أن الجائزة يقدّمها الاتحاد الأوروبي وليس المؤسسة؟ وألا يعرف الأكاديمي المرموق، الزائر جامعات أميركية وألمانية فيها إسرائيليون أو مناصرون لإسرائيل – كما في معظم جامعات الغرب ومراكزه البحثية – أن الاتحاد الأوروبي يعترف بوجود دولة اسمها إسرائيل في حوض البحر المتوسّط وأن برلمانه في ستراسبورغ الذي أقرّ الجائزة وموازنتها يورد إسرائيل ضمن الدول المتوسطية (وذلك بداهة أوروبية) من دون أي مؤدّيات على الجائزة نفسها ومقرّها بيروت ومرجعها لجنة التحكيم الملتزمة بالقوانين اللبنانية في ما خصّ رفض التعامل مع الاسرائيليين؟ وهل برأيه أن "ورثة الزور" في مؤسسة سمير يستسهلون إضاعة فقيدهم "إسرائيلياً"؟...


فعلاً أضاع فواز سميراً. وفعلاً أضاع قارئ نصّه فرصة الوقوف على ما كان يمكن لمثقف وسياسي من مستوى فواز أن يكتبه في ذكرى اغتيال صديقه قبل خمس سنوات في بيروت، بعيداً عن الاتهامات والادّعاءات وتصفية الحسابات غير الموفّقة...
زياد ماجد

Tuesday, June 8, 2010

التزوير والتخوين: الحملة على مؤسسة سمير قصير نموذجاً

ظهرت في الذكرى الخامسة لاغتيال سمير قصير مجموعة حملات وكتابات يشي معظمها بأمرين:
الأول، تصفية حسابات يريد من خلالها البعض نقل ما يعتبرونه انتصارهم السياسي في لبنان (التالي لانتصار ميليشياوي دموي) الى الحقل الثقافي إنطلاقاً من "أخلاقيّات" يدّعونها ويمارسون باسمها حملات تخوين وتصنيف لخصومهم.
والثاني، تصفية حسابات شخصية تتكئ في ما تتكئ إليه الى تغيير وقائع وتجنّب أخرى، وفي الحالين الى تزوير موصوف.
المقال التالي هو ردّ أوّلي على بعض هذه الحملات والكتابات.

في "تهمة التطبيع"
توّجت الآنسة يارا الحركة حملة اتهامات لمؤسسة سمير قصير بدعوى قضائية تقدّمت بها ضد المؤسسة بتهمة التطبيع مع إسرائيل. وكان سبق الحملة والدعوى بأشهر، إشارات أطلقتها بعض المحطات التلفزيونية حول المسألة عينها.
على أن الدعوى كما الحملة، وفيما يتخطّى الآنسة الحركة ويتعدّى نواياها "الثورية"، تحمل مزيجاً من الجهل والنفاق.
فجائزة سمير قصير لحرية الصحافة هي جائزة أقرّها البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ عام 2005 وموّلها كجائزة متوسطية، ولا يمكن لأجلها تعديل الخريطة السياسية المعتمدة أوروبياً (ودولياً) لحوض البحر المتوسّط، والمُعتَرف فيها بإسرائيل كدولة. أما حصانة الجائزة تجاه المشاركة الاسرائيلية – ومن ضمنها مشاركة فلسطينيي ال48 !- فقائمة في وجود مقرّها في بيروت حيث القوانين تمنع كل تواصل مع إسرائيل، وحيث إدارة الجائزة تعي حساسية الموضوع وخطورته ولا يمكن أن تتركه نهباً للصدف والافتراضات واحتمالات تدخّل الاسرائيليين.
والأهم من ذلك، أن مقاربة التطبيع على هذا النحو التبسيطي تتيح التساؤل عن أسباب تجنّب الدعاوى على مجمل المؤسسات الدولية وهيئات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان ومراكز البحث السياسي والتربوي العالمية وجلّها تعترف بإسرائيل ولها مقار وبعثات وبرامج فيها، وبعضها يتبع لدوائر وموازنات هي نفسها التي تدير مقار وبعثات وبرامج الهيئات والمؤسسات والمراكز المذكورة في لبنان (دوائر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، والتي لا يقصّر معظم "أعداء التطبيع" في طلب المعونات منها والاستفادة من هباتها وشراكتها ودعمها للمشاريع في أكثر من مجال وموضع.
وبمعزل عن كل ما ذُكر، وخلافاً لما يردّده أهل الحملة ورافعو لوائها ودعواها، فإن مؤسسة سمير قصير ليست شريكة في الجائزة ولا هي مسؤولة عنها وعن شروطها، بل هي تتعاون مع بعثة الاتحاد الاوروبي في لبنان بصفتها المعنوية، ويمكنها في أي لحظة ترك الجائزة وتوزيعها محصورَين بالأوروبيين المشكورين على تذكّر سمير وحرّيته وشجاعته وشهادته سنوياً، في وقت يريد "ممانعون" تشويه ذكراه بادّعاءات زور وافتعال بطولات وهمية...

أبعد من الحملة
يمكن قول الكثير في هذا الباب "التطبيعي"، مع انطلاق ما يشبه "الماكارثية" لبنانياً، التي لم توفّر كتباً وترجمات وأفراداً، حتى وصل الأمر بأحد "غاضبيها" حدّ كيل الاتهامات لأشخاص التصقت أسماؤهم بدعم القضية الفلسطينية (مثل نوام تشومسكي وجيلبرت أشقر) بسبب كتابات أو مقابلات أجروها مع الإعلام الاسرائيلي للردّ على دعاياته.

ويمكن أيضاً التوقّف عند سبب عنونة مقال يُفترض أنه تغطية لندوة السيد نجيب سويروس حول أدوار عمالقة الاقتصاد العرب في منطقتهم - مقال السيدة صباح أيوب في "الأخبار" وعنوانه: "سويروس في ضيافة جيزيل خوري: أهلاً بالتطبيع؟" - في حين أن المقال يُغفل تناول الفقرة الوحيدة في الندوة التي تطرّقت جدياً لمسألة التطبيع، حين أشار المنتدي الى تصدّي "الممانعين" له واتّهامهم إياه بالتطبيع بعد أن طلب من إحدى لجان جامعة الدول العربية شراء أراضي الفلسطينيين المعروضة للبيع في القدس الشرقية ليقطع الطريق على الاسرائيليين وعلى المستثمرين الداعمين لهم الراغبين في شرائها! هذا علماً أن ندوة السيد سويروس كانت على قدر عال من التسطيح الفكري والخفّة السياسية، ولم يكن فيها في أي حال ما يبرّر مهنياً أو حتى لغوياً ال"أهلاً بالتطبيع" عنواناً لتغطيتها.


... إنه التطبيع إذن، تهمة تخوين جديدة جاهزة للإسقاط على من كان الاتهام سابقاً يطالهم بالانتماء الى محور "سعودي" (أو أميركي). فإذا بالسعودية تُصالح النظام السوري، ليبطل مع مصالحتهما الاتهام وتنتفي الشتيمة إن استُخدم.
إنه التطبيع رُهاباً، وقد آن الأوان بمعزل عن الرقاعة والابتزاز السائدين للبحث جدياً في ما يعنيه اليوم وفي مستوياته ونظمه وأثر كل منها على لبنان وفلسطين، وعلى حياتنا الثقافية...
زياد ماجد

Tuesday, June 1, 2010

ذكرى اغتيال

من قتل سمير قصير؟
سؤالٌ طرحته حملة قام بها منذ فترة عدد من أصدقاء سمير ومحبيه بهدف التذكير بأن سميراً لم يمت ذات صباح في 2 حزيران 2005 لأن بليّة أصابته أو لأن داء صرعه.
من قتل سمير قصير، سؤال يستحق أن نتوقف عنده اليوم، ليس للتذكير بمن هو سمير فحسب، بفكره الديمقراطي أولاً، اليساري والعلماني ثانياً، بحريته التي لم يساوم عليها ولم يقبل بتدجينها، بلبنانيته المتصالحة مع فلسطينيته، بمتوسطّيته المنفتحة على الحداثة والتنوير وعلى قيم "الجمهورية" الفرنسية، ببيروتيته عاصمة للقلق والصخب والإبداع والثقافة في منطقة عربية أنهكها الاستبداد والقمع وخنقتها الظلامية وفتاوى الانحطاط.
من قتل سمير قصير، سؤال للتذكير بأن ثمة قتلة طليقون يعيشون بيننا، اغتالوا سميراً لسببين:
أولهما، ثأرهم من قلمه، من شجاعة أسئلته ورفضه الاستسلام للبديهيات البليدة، من مواقفه السياسية اللبنانية الاستقلالية، والسورية الديمقراطية، والفلسطينية التحررية والعقلانية.
وثانيهما، تأكيد كرههم للمثقفين الذين يحافظون على الرصانة الثقافية مُعملين أدواتهم المعرفية تشريحاً للواقع وتظهيراً لبواطنه، ثم يبنون على ذلك مواقف وانحيازات الى قضايا، يوظّفون في سبيلها طاقاتهم ورأس مالهم المعنوي لتغيير الأمور ومقارعة السائد البائس.

بهذا المعنى، فاغتيال سمير كان رسالةً نَسجت من الماضي، ماضي الرجل، والحاضر، حاضر التزامه وإنتاجه ونشاطه، موتاً لتقول إن لا أفقاً لمن يجهد ويعمل ويبدع، وأن لا مستقبلاً لمن يريد التصدي للعسس القابضين على هذه المنطقة، المنزلين إياها الى عتمة أقبيتهم وعفن سجونهم
وبهذا المعنى أيضاً، فالتذكير ضروري كل يوم، بأن اغتيالاً وقع في بيروت، وبأن الأصابع التي وقّعت حكمه، وتلك التي نفّذته ضاغطة على زر حقد، تماماً كما تلك التي سطّرت بعد وقوعه أخباراً وإشاعات للتضليل، ما زالت تبحث عن حكم جديد وعن زر جديد وعن تزوير جديد. ووحده تكبيلها، وحده سوقها الى المحاكمة، ينهي توثّبها لإهراق الدم وإصرارها على إعدام الجهود وخنق المشاريع والأحلام.
من قتل سمير قصير، سؤالٌ سيستمر طرحه لمنع النسيان من التهام جريمة ومجرمين، وتأكيدٌ أن لا مساومة على نبل راحل ولا سماح، وتمسّكٌ بفلسفة العدالة ومقتضياتها، ولو حلّت بعد حين...
زياد ماجد