Tuesday, December 22, 2009

زيارة سوريا

كتبنا منذ مدة عن "زيارة سوريا" بوصفها صراع رمزيّات (في نشرة الأفق www.al-ofok.com). وأشرنا الى شروط ينبغي توفّرها كي لا تكون زيارة الحريري مجرد إنجاز للنظام السوري في الحقل الرمزي يضاف الى "نجاحه" السياسي في فكّ عزلته نتيجة الانفتاح الفرنسي والأوروبي عليه، ونتيجة المصالحة السعودية له، ونتيجة دعمه المباشر من قوّتين إقليميتين هما إيران وتركيا، إضافة الى تفضيل القوة الإقليمية الثالثة، أي إسرائيل، له على "المجهول" وتحييدها إياه في حملاتها السياسية والديبلوماسية.
وإذ يمكن القول إن بعض الإجراءات خفّفت من الأضرار على الزائر (كمثل وصوله بالجو وليس بالبر على عادة زيارات "المسؤولين" اللبنانيين في أيام الوصاية الغابرة، وكمثل عقد مؤتمره الصحفي في سفارة لبنان "المُنتزعة" وليس في قصر مضيفه)، إلا أنه يصعب نفي تحقيق النظام السوري تقدّماً "رمزياً" عبّرت عنه صور اللقاء ومجاملاته وبعض العبارات المستخدمة عقبه. كما عبّر عنه عدم التطرّق العلني الى قضايا ستظلّ جدول أعمال للعلاقات اللبنانية السورية في الفترة المقبلة، وسنشير إليها لاحقاً.

على أن ما نريد التعقيب عليه، هو ما رافق الزيارة من تعليقات، أبرز ما فيها ينطلق من الخفّة السياسية (المعطوفة على المبالغات التي تحدّث عنها حازم صاغية في مقاله في ناو ليبانون أمس) إن شماتةً بالزائر وجمهوره، أو مكابرة وتشاطراً متهافتين. فبين من هلّل لما عدّه استسلاماً أكثريّاً "لسوريا الأسد" وتراجعاً عن أخطاء التحريض ضدها في السنوات الماضية، وبين من اعتبر ما جرى تمسكاً "بمبادئ ثورة الأرز"، مروراً بمن عدّ الأمر عودة الى "العمق الاستراتيجي"، ضاع النقاش الذي يُقام عادة في مناسبات كالتي شهدنا.
فلا تقييم الشكل والأسلوب واللغة تمّ، ولا التقييم السياسي لمضمون ما قيل من الطرفين حصل، ولا وضع الزيارة في سياقها الإقليمي جرى.
والزيارة لم تكن لا تراجعاً عن أخطاء ولا تمسّكاً بمبادئ ولا عودة الى التاريخ والجغرافيا وعلاقات القربى والأخوّة وسواها من مصطلحات أقرب الى تلك التي تُستخدم عند توقيع اتفاقيات تعاون بين بلديات أو مخاتير منها الى ما يُستخدم في قاموس السياسة والعلاقات الدولية.
الزيارة كانت حدثاً فرضته المصالحة السعودية السورية، وكانت استكمالاً لمسار التسويات الداخلية الذي أفضى الى إنتاج السلطة التنفيذية. وربما يصحّ القول إنها شكّلت ترجمة رسمية لانتهاء مرحلة كانت الانتخابات النيابية في 7 حزيران الماضي ثم مفاوضات تشكيل الحكومة مؤشرين الى شكل انتهائها، من دون أن يعني الانتهاء تحديداً لسمات مرحلة قادمة تبدو الأمور فيها ضبابية لأسباب كثيرة، منها أن المصالحة السعودية السورية لم توصل بعد الى مصالحة سعودية إيرانية، ولا الى مصالحة سورية مصرية؛ ومنها أيضاً أن الهشاشة الداخلية اللبنانية تسمح بأن يعود التوتر فور عودته إقليمياً، أو فور تصاعده بين إيران والولايات المتحدة، دون أن ننسى قدرة حرب إسرائيلية جديدة على إرباك الأوضاع وجعل أي مآل لها منطلقاً لارتدادات شبيهة بتلك التي خلّفتها حرب تموز 2006.
الأهم، بعد صراع الرمزيات الذي شهدنا، هو جدول الأعمال الذي سيحكم العلاقات الرسمية اللبنانية السورية في المرحلة "الجديدة"، أو على الأقل الى حين رسوّ المنطقة على حال واضحة. وللتذكير، ففي هذا الجدول قضايا ترسيم الحدود، ومزارع شبعا، وقواعد "القيادة العامة" في البقاع والناعمة، والمفقودون في السجون السورية، وبعض الاتفاقات السابقة بين البلدين، من دون إسقاط تبعات ما يرتبط بالمحكمة الدولية، إن تسارعت أعمالها أو تباطأت.
وكل ذلك، سيؤثر في مسار التواصل بين السراي وقصر المهاجرين، كما بين الحلفاء والخصوم في بيروت وضواحيها الشرقية والشمالية والجنوبية...
زياد ماجد

Tuesday, December 15, 2009

عن إلغاء الطائفية السياسية

يستوي طرح إلغاء الطائفية السياسية بأكثر الردود القائمة اليوم عليه.
فالطرح والردود تنطلق غالباً من مقولتين تسطيحيّتين للمسألة الطائفية، تحوّلها الى مجرّد مادة سجال ومزايدة يبدو الهاجس الوحيد فيها ديموغرافياً، إذ يستقوي بها – ويهدّد بتطبيقها – من يرى في عديد طائفته حصانة لموقعه، وينبذها ويندّد بها من صار حضوره في ضمور...
على أن الموضوع، رغم مشروعية المخاوف الرقمية التي يبثّها، أبعد من كونه مادة سجال حول مؤدّياته السياسية المباشرة وما قد تعنيه من انتهاء للمناصفة في المناصب في الدولة بين المسلمين والمسيحيين، بمعزل عن الأحجام وسجلات النفوس وإخراجات القيد.
فالبحث في الطائفية هو بحث في مجموعة عناصر سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية تكرّست في العقود الماضية وصارت ناظمة للحياة العامة (وأحياناً الخاصة) في لبنان.
والطائفية بهذا المعنى مؤسسة قائمة في ذاتها، وقائمة أيضاً في شبكات من العلاقات في المجتمع وفي الدولة لا ينفع معها التبسيط اليساروي المعتبر إياها حدثاً عارضاً في السياق اللبناني أو وسيلة للتعمية على الصراع الطبقي. ولا ينفع معها كذلك المنحى شبه الثقافوي الذي طالما اعتمده ما سُمّي يوماً باليمين المسيحي والمعتبر إياها علّة وجود لبنان وصنو ديمقراطيته وحماية أقلّياته.
فالطائفية تعليم وتربية وأماكن إقامة مفروزة، وهي أحوال شخصية وشهادات في المحاكم، وأنشطة رياضية وكشفية، ومجالس ملل ومحاكم شرعية تصدر قرارات وتمارس رقابة وتندّد بكتب وبرامج فنية. وهي أيضاً مناصب عليا في الدولة ومواقع في الإدارات تتحول زبائنية ومنافع. وهي قانون انتخاب وتوازنات بين السلطات ورمزياتها، كما هي أمن بالتراضي واختصاصات "وطنية" بالمقاومة أو بالإعمار أو بالسيادة. من دون أن ننسى أنها صراع على التاريخ وتأويلاته، وعصبيات استقطاب وعنف ودفاع عن مصالح وعن مخيلات جماعية، وعن خيارات خارجية وتموضوعات إقليمية.


وإذا صحّ في فترة القول إن التوازن بين الطوائف منع نزوع بعض النخب في الطوائف إياها الى السعي للاستئثار بمقدّرات البلد جميعها على نحو ما جرى ويجري في دول الجوار العربي، فيصحّ أيضاً القول إن الاستئثار نجح رغم ذلك - وعلى دفعات ومراحل - في إدارة الطوائف من داخلها واستنفارها في مواجهة بعضها. فشعارات "توحيد البندقية" أو "وحدة الصف" أو "الالتفاف حول المقاومة" عبّرت كلٌ منها في فترة عن تحوّل الاستئثار سبيلاً لإلغاء المنافسين ثم لمواجهة الآخرين وتحصيل القدر الأعلى من "الحقوق" منهم وعلى حسابهم.
وما يجري طرحه اليوم، إذ لا يبحث في أي من القضايا الأساسية المتعلقة بالطائفية، لا يخرج كثيراً عن السياق السياسي المذكور، المتصل بالتبسيط والاختزال، والمستند أساساً الى منطق استئثار.
فمن يطرح إلغاء الطائفية السياسية هو وأنصاره أكثر ممارسيها تشدّداً في الدفاع عن مواقع طائفتهم "المحرومة والمستضعفة والمقاومة والمستهدفة من الداخل والخارج" على ما يقولون. وهم إذ صاروا يعطفون على طرح الإلغاء تمسّكاً مرحلياً بالديمقراطية التوافقية، وبالسلاح (!) يبدون كمن ينشئون ابتزازاً جديداً مفاده "اقبلوا بالمثالثة التي يؤمنها حق الفيتو في الديمقراطية التوافقية، أو سيروا في إلغاء الطائفية السياسية ولنر من عدد مناصريه أكبر وليأخذ كلٌ حق طائفته وفق عدد الأيادي التي تريده"...
والأنكى، أن بعض من يرفض طرحهم، إنما يعزّزه في ردوده عليه، فيبدو كمن يدافع عن مجد غابر وعن نظام مأزوم، مناقضاً نفسه بنفسه. فعوض التركيز على الدستور وعلى ضرورة الاتعاظ من تجارب العقود الأربعة الاخيرة وحروبها وصراعاتها والبحث في سبل إصلاح النظام (إن بقي للإصلاح معنى)، تراه يتخلى عن التوافقية داعياً الى "الاكثرية" البرلمانية، ثم يتمسّك بالطائفية داعياً الى احترام التعددية والمناصفة "التوافقية"! وهو في الحالين يبدّد فرصة تصويب النقاش، والرد العقلاني والمسؤول على من يستلّ العدد سلاحاً ويعطف عليه غالباً سلاحاً أمضى أثراً منه، هو السلاح نفسه!
زياد ماجد

Tuesday, December 1, 2009

السلاح... تحت، فوق

تبدو السياسة في لبنان منذ أشهر سائرة على إيقاعين مختلفين: إيقاع مصالحات تدّعي طيّاً لصفحة السنوات الخمس الماضية وما حوته من أحوال وأهوال وتحالفات وتجمّعات لم يسبق للبنان أن عرف ما يماثلها في تاريخه، وإيقاع انتخابات طلابية ومهنية ونقابية تستكمل الفرز الذي شهدته السنوات الخمس نفسها وتؤكّد عمقه وصعوبة تبديله بقرارات حتى ولو كان متّخذوها شديدي التأثير في جمهورهم وفي مواقفه واتجاهاته.
فمقابل لقاءات مبهمة ونقاشات تتجنّب البحث في المسائل الجوهرية، ومقابل تصريحات "أخوّة" وبيانات "وفاق" يمكن أن يلهو المرء في تفكيكها وتبيان وهنها وتناقضاتها، تبرز انتخابات حامية التنافس يشارك فيها آلاف المواطنين، طلاباً ومحامين وصيادلة في بيروت وفي أكثر من منطقة. إنتخابات تظهّر المشهد على حقيقته: كتلتان كبيرتان تتصارعان سياسياً ومذهبياً، وتستعيدان تواريخ مجد لكل منهما.
هكذا، تبرز صورة الاجتماع اللبناني - لدى فئات عمرية شابة، ولدى منضوين من أعمار مختلفة في أجسام نقابية ومهنية - على عريها: انقسام عامودي واستمرار لمعسكري 8 و14 آذار قاعدياً، بعيداً عن الخطابات الفوقية، أو ربما تعبيراً عن المواقف الفعلية (الضمنية) لقوم "فوق" حيث التقيّة صارت اختصاصاً لا يشذّ عنه سوى قلائل.
أكثر من ذلك، توحي الصورة بأن الإيقاعين المختلفين فوق وتحت، يسيران أيضاً في اتجاهين متعاكسين. ففي حين يستمر (ما تبقّى من) معسكر 14 آذار في تراجعه في السياسة وفي إدارتها (لأسباب صارت مذكورة في أكثر من موضع)، يستمر جمهوره في التقدّم انتخابياً إن على مستوى الجامعات، أو على مستوى نقابات المهن الحرة المؤثرة في الرأي العام وصناعته، والمتأثّرة به.
والأمر نفسه يسري على معسكر 8 آذار. فتقدّمه وضبطه شروط اللعبة السياسية وتوازناتها لصالحه، لم يقابله سوى تراجع انتخابي له في المواقع المذكورة يبدو تكريساً على "الأرض" لما جهد ويجهد (بنجاح) لمحو آثاره "فوق": صناديق 7 حزيران 2009...

هل من تفسير لذلك؟
طبعاً. فبالإضافة الى التعبئة التي لم تنتهِ مفاعيلها، والحنين الى التعاضد والى أمان الانتماء الى جماعات عريضة، وبالإضافة الى ذاكرة الدم المراق الحية في أكثر من مكان وموضع، ثمة عنصر تماسك "مادي" لن ينجح أحد في نزعه، ولن يكفي تصدّع 14 آذار لإسقاطه: رفض السلاح غير الشرعي وتحالفاته الإقليمية.
وهذا الرفض، سيبقى في المدى المنظور منطلق الفرز الأول في لبنان، من عائشة بكار الى عاليه، ومن زحلة الى صور، ومن الشياح الى التبانة وجبل محسن. وهو سيزداد مركزيّة "تحت" كلما تجنّب "الفوق" نقاشه بهدوء وحكمة وحزم...
زياد ماجد