Tuesday, July 28, 2009

في الديمقراطية التوافقية

تستهلك الحياة السياسية في لبنان كمّية من المصطلحات، وتجترّها غالباً وفق توظيفات واستخدامات خاطئة علمياً، إضافة الى تهافتها حتى في الواقع السياسي الوطني.
ولعل مصطلح "الديمقراطية التوافقية" هو أكثر تلك المصطلحات تعبيراً عن هذا الاستهلاك المتهافت في السجالات والمقولات المتداولة في السنوات الأخيرة.
فإن سعى مُكلَّف لتشكيل حكومة موسّعة، قيل إن المطلوب هو قيام حكومة "وحدة وطنية" تقتضيها "الديمقراطية التوافقية". وإن قَرّر طرف تعطيل المؤسسات والمساق السياسي الحكومي، قاطعها أو استقال منها أو أوصد أبواب بعضها بحجة "الشرط الميثاقي" المستند الى مبادئ "الديمقراطية التوافقية"! وإن طَرح أحدهم ضرورة البحث في سبل إصلاح النظام السياسي واحترام مبدأ فصل السلطات وإتاحة الفرصة للجميع بالتمثّل في المجلس النيابي من دون قسرية تشكيل حكومات هجينة يمكن تعطيل القرارات فيها، رُدّ عليه بإن "الديمقراطية التوافقية" تتطلّب مشاركة كل القوى في السلطة التنفيذية على نحو لا يسمح لأحد باحتكار الحكم واتخاذ القرارات التي تهدّد فئات لبنانية، أو بالأحرى، التي لا تقبل بها هذه الفئات...

ولكن ما هي "الديمقراطية التوافقية" أصلاً؟
تقوم فلسفة الديمقراطية التوافقية على أساس أن المجتمعات ذات التنوّع الإثني أو اللغوي أو الديني تحتاج الى أنظمة تُطَمئن مختلف مكوّناتها وتُتيح لهذه المكوّنات المشاركة والتمثّل في السلطات على نحو يجعل اتخاذ القرارات الكبرى (المرتبطة بالكيانات وحدودها وسيادتها وحروبها ومعاهداتها وتغيير نظمها) بأكثريات مطلقة متعذراً، ويُلزم الحكومات بالتالي ثم البرلمانات بعدم إقرار ما لا يحظى بأكثريات موصوفة لا تقلّ عن الثلثين.
وهي – أي فلسفة الديمقراطية التوافقية – تفترض أنها بحرصها على جميع مكوّنات المجتمع إنما تحول دون الأزمات وتدفع الجميع في لحظات الخلاف الى تسويات تحتكم الى الآليات المؤسساتية والى ما تنصّ عليه من شروط لاتخاذ القرارات.
على أنها، تتطلّب لاعتمادها، عناصر تأسيسية لا غنى عنها:
- وجود حكم مركزي يملك في مؤسّساته الحق الحصري في اتخاذ القرارات، بالأكثرية المطلقة في الحالات الإدارية والإجرائية، وبالأكثرية الموصوفة في الحالات المصيرية.
والأكثرية الموصوفة ليست بالضرورة حكومية، فهي في الأساس تشريعية إذ أن القرارات الحكومية تحتاج الإقرار البرلماني. وهذا ليستقيم، يشترط فصل السلطات فصلاً صريحاً.
- وجود نظام لامركزية موسّع يتيح للمناطق (في حال كان التنوّع في المجتمع يتّخذ منها شكله السياسي) ممارسة سلطات موسّعة في الخدمات (مع وجود حكومات ومجالس منتخبة في الحال الفيدرالية)، من دون تهديد مركزية السياسات الوطنية.
- وجود مجلسين، للنواب وللشيوخ يتوزّعان الصلاحيات، مع انتخاب شعبي غالباً ما يكون وفقاً للنظام النسبي وبتقسيمات للدوائر تعكس تنوّع الهويّات القائم وتؤمّن له البروز.
وتتشكل الحكومات لاحقاً من الأحزاب المنتمية الى العائلة السياسية أو الى التحالف السياسي الفائز بالعدد الأكبر من المقاعد. ويكون ممثلّوها من جميع الدوائر – المناطق. فتأتي بالتالي متجانسة سياسياً ومتنوّعة مناطقياً (وبالتالي فيها ممثلون من مختلف الجماعات الدينية أو الإثنية/القومية أو الثقافية/اللغوية، إلخ).
- وجود آليات تحكيم داخل المؤسسات يجري الاحتكام إليها لاحتواء مضاعفات أي خلاف على قضايا جوهرية. وهذا بدوره له أحكامه، وفي حالات معيّنة يمكن الذهاب الى استفتاءات شعبية مناطقية أو وطنية تخضع بدورها لشروط واعتبارات.


هل هذا فعلاً ما نعتمده في لبنان؟
يبدو ممّا سبق عرضه، ولو باختصار، إن ما يُستخدم في اللغة والممارسات السياسية في لبنان في السنوات الأخيرة بعيدٌ عن "الديمقراطية التوافقية" كما هو مُتّفق على تعريفها واعتمادها.
- فلا فصل السلطات عندنا مُحترم – رغم أنه واضح في الدستور – إذ أن الجميع يشارك في تشكيل السلطة التنفيذية، وتمتلك مختلف الكتل النيابية حصصها فيها. وهذا يجعل الحكومة الى حد بعيد صورة مصغّرة عن البرلمان ويُبطل بالتالي مبرّر عمل الأخير في ما يختص بمراقبتها ومساءلتها، هذا عدا عن إلغاء موجبات وجود معارضة فاعلة تحقّق توازن الحياة السياسية.
- ولا سلطة الدولة وحدها على مجالات السيادة مُحترمة، بل ثمة مجموعات تحصر الفعل السيادي بها، وتقيم علاقاتها وتحالفاتها الخارجية المختلفة والمتناقضة. وأكثر من ذلك، ثمة من بينها من يملك قرار الحرب والسلم ويستطيع اتّخاذه دون العودة الى الدولة، لحيازته المقوّمات اللازمة لذلك (سلاح وجهاز قتالي وأرض يتحرّك فوقها وتحتها بمعزل عن الدولة).
- ولا اللامركزية لجهة التنمية والمرافق الإدارية موجودة، إذ أن الدولة شديدة المركزية خدماتياً، والإدارة فيها قليلة الفعالية، أما البلديات ومجالس الأقضية، فمهمّشة أو مغيّبة.
- والأهم، أن مبدأ التوافق كفلسفة في الحكم، غير موجود عندنا إلا لضرورات قسرية، وهو في أي حال مطلب تنادي به مجموعات وتريد الاستناد إليه لتعطيل "حصة" غيرها، في وقت ترفضه إن طال "حصّتها"!
وهذا يسمح في جملة مؤدّياته، لا الى استمرار الأزمات من دون فرملة داخلية فحسب، بل وأيضاً الى استحداث آليات تحكيم وحلّ نزاعات خارج مؤسسات الدولة: في التشكيلات الأهلية والدينية حيناً (مما يبقيها قوية ومستنفرة ومُضعفة للولاء الوطني)، وفي الخارج أحياناً أخرى، عند اشتداد الأزمات وتفاقمها.
بهذا المعنى، يأتي التوافق قسرياً تفرضه الخشية من الانزلاق الى الحروب. وإن لم يجد من يفرضه قبل الانزلاق، ذهب الجميع الى الاقتتال فاستجلبوا التدخل لتغذية اقتتالهم أو لفرض وقفه!
من هنا، يستمرّ لبنان في التخبّط بأزماته، وتتناسل الأزمة من سابقتها، أو أحياناً تأتي من الخارج مباشرة لتجد في القسمة الداخلية من يرحّب بها رغبة باستخدامها تحسيناً لشروطه في مواجهة منافسيه، أو طمعاً بما يمكن أن تجلبه له من مقوّمات مادية تعزّز سلطته ونفوذه داخل جماعته الأهلية والمناطقية.

هل هذا يعني أن الاحترام الفعلي لفلسفة الديمقراطية التوافقية إن تم، يحلّ مشاكلنا؟
لا نعتقد ذلك لأسباب عديدة تستحقّ نقاشاً مستفيضاً. لكن أبرزها قائم في ثلاثة عناصر.
الأول، عام، مردّه أن نظام الديمقراطية التوافقية حين يُقرّ، يأتي ترجمة لتوازن قوى معيّن في المجتمع، يمكن أن يكون ديموغرافياً أو اقتصادياً أو استراتيجياً. وهذا التوازن عرضة للاختلال ما إن تتغيّر معادلاته وتحالفات المنضوين فيه وميولهم وتطلّعاتهم. كما أنه عرضة للتبدّل كل ما خرج طرف رئيسي عن نقاط التوافق التأسيسية له.
بذلك، يتحوّل النظام الذي أنتجته الرغبة في إرضاء الأطراف المتعاقدة وتجنّب الأزمات في ما بينها، الى مصدر للتأزّم في ذاته نتيجة التجاذب الذي قد يتعرّض له، ونتيجة عجزه عن إدارة الصراعات إن نشبت ورفض أطرافها الامتثال لما يُمليه، مفضّلين تعديل شروطه وتغيير آليات تقاسم السلطة من خلاله.
وهذه الأمور كثيرة الحدوث في لبنان. فأي نظرة للاصطفافات الطائفية وتبدّل تحالفاتها الداخلية والخارجية وتعدّل ديمغرافيتها تشير الى سرعة الوقوع في أفخاخ المطالبات من هذا الطرف أو ذاك بتعديل قواعد التواصل أو الاشتباك المعتمدة سابقاً. مما يعني أن الساعي الى التعديل كما الرافض له إن امتلكا مشروعيتهما الشعبية يستطيعان شلّ النظام سلمياً وتسهيل الخروج عليه ثم ضربه في المؤسسات كما في الشارع.
الثاني داخلي، مفاده أن القدرة على الاستقطاب الطائفي في لبنان غالباً ما تتصاعد عند الطوائف جميعها في المرحلة نفسِها. وهي بالتالي تفرض مشروعيات طائفية لا يمكن تجاوزها عند تشكيل السلطة، في شقّيها الحكومي والبرلماني. ففي اللحظات الحرجة (وهي كثيرة!)، غالباً ما يكون رئيس الحكومة هو السني الأقوى، ورئيس المجلس هو الشيعي الأقوى (أو المفوّض من الأقوى) حتى ولو كان أقلوياً في المجلس. ويصعب بالتالي أن يتجاوز أحدهما الآخر مما يعيق العمل لمجرّد تباين آرائهما وصولاً الى تعطيله. أما رئيس الجمهورية، المُنتخب من النواب، فيقبع بين حاجته لمشروعيّته المسيحية من ناحية، وارتباطه بالأكثرية النيابية التي انتخبته من ناحية ثانية، مما يمكن أن يُضعفه ويجعله خاضعاً للابتزاز إن لم يُخرج مؤسسة الرئاسة من أسر يفرضه الواقع الطائفي، ويحوّلها الى موقع تحكيم أو ترجيح مستقل فعلاً.
كما أن المأزق في لبنان الناتج عن تناقضات في الخيارات الخارجية بين المجموعات الطائفية، لم ينتج تسوية يقبل الجميع بها وتستند الى مبدأ التحييد أو الحياد عن صراعات المحاور والدول. وبذلك، يمكن عند أي إثارة لشأن خارجي، أن تعترض مجموعة قوية في تمثيلها الطائفي، أو أن تعتكف أو تستقيل، فتُسقط باعتراضها القوام التوافقي عن السلطة وتشلّها.
وهذا ممكن من دون سلاح، فكيف والصواريخ مملوكة بالآلاف؟
السبب الثالث، خارجي، وهو متأتّ من القدرة المتنامية "للخارج" على التدّخل في لبنان نتيجة عمق التباينات الداخلية في النظرة الى هذا الخارج، ونتيجة الحاجة إليه لضبط الأمور أو حسمها إن تأزّمت لبنانياً وانتفت إمكانات التفاهم أو الوصول الى حلول داخلية لها.
ولعلّ رصداً بسيطاً لانزلاق الأثر الخارجي من لعب أدوار تسووية يتوّجها انتخاب رئيس للجمهورية (فؤاد شهاب مثالاً) الى حدّ الضغط راهناً باتجاه البحث في تركيبة الحكومة أو حتى في أدبيات بيانها الوزاري، يشير الى ازدياد الانكشاف على الخارج وتحويله مركزاً تحكيمياً فائق الأهمية قد يسهّل شؤوننا إن اتّفق لاعبوه الرئيسيون، أو قد يعجّل في دفعها الى الانفجار إن اختلفوا وأرادوا اعتماد جغرافيتنا بريداً لرسائلهم.

لهذه الأسباب، تتّسم الدعوة المستمرة للبحث في طبيعة نظامنا السياسي واقتران عجزه بالمعضلات التي تدفعه إليها الأزمات في أطوارها المختلفة، كما تتّسم المطالبة الملحّة بضرورة الحوار حول موقع لبنان في المنطقة وعلاقته بالخارج وأشكال ترجمة هذه العلاقة، بالأولوية المطلقة.
فعلى عكس ما يعتقد البعض، لا يمكن النأي بلبنان عن الأهوال المحيطة فيه، أو النائمة في مجتمعه، إن لم يُفتتح هذا البحث الشاق ويُبدأ الحوار حوله بمثابرة ونفس طويل.
وهذا طبعاً يقتضي، وقبل أي شيء آخر، حدّاً من الاستقرار وحرية القرار. وقد كانت الانتخابات الأخيرة مؤشّراً الى ميل اللبنانيين للانتصار للحدّ المذكور والإتيان بمن بفترض أنهم يمثّلونه. فهل ستُستغلّ الفرصة قريباً للتفكّر الجدي بطبيعة أزمتنا المركّبة، أم أن الاستسهال والركون الى الحلول المؤقتة سيظلان الميزة الاولى لحياتنا السياسية؟
قد لا يبدو الجواب مطمئناً. لكن التذكير بالسؤال يبقى واجباً...
زياد ماجد