Tuesday, February 24, 2009

أبعد من تهجّم أو سجال


يسلّط تهجّم رئيس السلطة التشريعية على رئيس الحكومة الضوء على مستويات ثلاثة للتردّي السياسي والقانوني في البلاد.
 ذلك أن هذا التهجّم، وبمعزل عن الإسفاف في اللغة والمفردات المعتمدة فيه، وبمعزل عن شبهات توقيته وأبعاده الانتخابية والسياسية المباشرة، يبيّن:
- أوّلاً، أن مبدأ فصل السلطات في لبنان، الذي نصّ عليه الدستور والذي تفترضه كل الأنظمة الديمقراطية، صار مجرّد مقولة مُفرغة من كل بعد إجرائي ومن كل سياق مؤسساتي. فرأس السلطة التشريعية (وهو بالمناسبة ممثّل للأقلية النيابية، وفي ذلك أساساً مفارقة)، بات شريكاً دائماً في السلطة التنفيذية، لا بل وصيّاً على أعمالها وتعييناتها التي تخصّ المنطقة والطائفة اللتين ينتمي إليهما. وهو مفاوض لها على إدارة البرامج والموازنات عبر وزرائه وحلفائهم الأعضاء فيها (والمعارضين لها في نفس الوقت!) على نحو لا يترك معنى لدوره كرقيب، أو كمدير لجلسات التشريع والمحاسبة والمساءلة. وهو إن اصطدم برئيس السلطة التنفيذية وبالأكثرية فيها، يستطيع التلويح بسحب وزرائه من تلك السلطة لإسقاط النصاب القانوني، أو الطوائفي، عنها.

- وثانياً، أن صناعة القرارات داخل المؤسسات في ما يخصّ إدارة البلاد والخدمات فيها لم تعد تمتّ بصلة الى مبدأ الاحتكام الى الدراسات والموازنات والأولويّات، ولا الى مواقف الأكثريات والأقليات ممّا يُطرح من خيارات. وهذا أمر لا علاقة له بفلسفة الديمقراطية التوافقية التي يُتذرّع بها، والتي تقوم في المجتمعات المتعدّدة على أساس التفاهم على القضايا المصيرية، الكيانية والسيادية، وليس على تلك التنظيمية أو الإجرائية الخاصة بإقرار موازنة هنا ودفع تعويض هناك... وبهذا المعنى، تبدو صناعة القرارات كما يشتهيها المنادون بموازنة مجلس الجنوب اليوم، تسويات على اقتطاع أموال لا يهمّ من أين تأتي ولا كيف تُصرف ولا كيف يُراقب صرفها. فالمسألة في عرف هؤلاء "حقّ مباح" لمن يمثّل طائفة ومنطقة، لا دخل لمؤسسة أو لدولة أو لقانون في شؤونه ومسالكها.
- وثالثاً، أن مبدأ التحكيم بين المؤسسات صار مُستبدلاًَ بمحاولات "التوفيق" بين المسؤولين عن تلك المؤسسات، ومن خارج الأطر القانونية. فإن لم يقم "ساعي خير" بمصالحتهم، أمكن من يشاء منهم تعطيل "مؤسسته" وتأجيل بتّ الأمور فيها ومنع محاولات إعادة تفعيلها بحجة أن ذلك اعتداء على جماعة أهلية بحالها (هي طبعاً طائفته)، خاصة وأن الأجسام القضائية ذات القدرة الافتراضية على البتّ بالنزاعات غير مكتملة ناهيك بكونها مهمّشة في ظروف الانقسام الراهنة.
يوصلنا ما ذُكر الى التأكيد على أن الإصلاح في لبنان ليس ترفاً أو مسألة تجميلية، بل هو قضية مصيرية يرتبط بها استقرار الحياة السياسية ويستتبّ عبرها عمل المؤسسات، وينبغي على المعنيين به التفكير بكل مشاريع القوانين وآليات الضغط التي يمكن أن تحقّق البعض منه، أو تجعله احتمالاً.
على أن ذلك ليستقيم، يتطلب حدّاً من الهدوء، ومن القبول بمبدأ أن هذا البلد وطن وليس ساحة، وأنه ملك لأبنائه وليس نهباً للصراعات من حوله، التي تحت حجّة الخلاف على الموقع منها، يُمعن البعض تنكيلاً بما تبقّى من هياكل الدولة. ويُخشى إن انتصر منطقه ونهجه في الأسابيع والأشهر القادمة، أن لا نقف على حالة أسر خارجي للبلاد فحسب، بل وعلى حبس لكل احتمالات الإصلاح الداخلي أيضاً...
زياد ماجد

Friday, February 20, 2009

في ذكرى جوزف سماحة: الصديق السابق والرفيق الدائم

رحل جوزف سماحة. رحل للمرة الأخيرة.
كان قبل هذه المرة يرحل ويعود، يختفي ويظهر، يتنقّل بهدوء بين المدن والصحف، يهرب بعيونه الخفرة ونظراته الساخرة بين التجارب، ويثير في كل رحلة وفي كل عودة غباراً من الكلمات وغيوماً من الأسئلة والصخب.
رحل جوزف سماحة حاملاً خجله وظرفه، دقّته وألمعيّته، قسوة قلمه وحنان قلبه، لهجته المحبّبة ومشيته الرشيقة ونهمه الدائم.
لم يترك لنا أن نودّعه، أن نعيد رسم خطوط الاشتباك معه. أن نقيم الحدّ بين الودّ الشخصي القديم والخلاف السياسي الحاد ومتعة المحاججة وتوظيف الأمثلة والفرضيات في مبارزات تعلّمنا أسلوبها منه.
لم يترك لنا فسحة لنعاود اللقاء، لنكمل مساراً تعرّج في العامين الأخيرين ثم انقطع مع انطفاء الحياة في بيروت.
*****
كان جوزف صديقاً عزيزاً، ثم صار صديقاً مع شيء من الخصومة، ثم صار خصماً مع شيء من الصداقة. ثم عُلّقت الصداقة الى موعد مؤجّل تستطلع أوانه بعض السلامات والإشارات المرسلة عبر الأحبّاء المشتركين.
كانت ذكريات النقاش والتحليل والاختلاف والضحك والطرب معه تعود كلما فعل الغضب من مقالاته فعله. كان مكره عند تنكيله الموفّق ببعض "الرفاق" و"الحلفاء" ينتزع الابتسامات رغم الغيظ السياسي. وكان هذا الغيظ كبيراً بحجم الحب له، بحجم الإعجاب به، بحجم الساعات التي تبخّرت مع احتراق سجائر الجيتان خلال الاجتماعات السياسية والصحفية معه.
كان جوزف مصدر إلهام وتحفيز سياسي تماشياً معه أو رداً عليه. كان في معظم الاحيان قارئاً متخيًّلاً لأكثر الكتّاب الذين عرفوه. يتخيّلون ردود فعله وهم يكتبون مقالاتهم، ويحاولون سلفاً تقدير تعليقاته قبل أن يقفوا على البعض منها في اقتتاحياته في "السفير" و"الأخبار"...



قصة جوزف هي قصة جيل يساري كامل. جيل هو زهرة أجيال لبنان والعالم العربي. جيل اجتهد وجدّ وبنى قصوراً وأحلاماً، لكنها كانت من دون أرض تقف عيها. من دون تراكم. فراحت تنهار. الواحد منها ينهار تلو الآخر. مشاريع بأكملها اندحرت. هبطت من مكان الى مكان، ولم تخلّف سوى التمزّق والموت، وسوى المزيد من حبّ الحياة والتعلّق بالأحلام والأوهام والحقائق المرعبة.
قصة جوزف هي سيرته مع حازم صاغية التي كتبها وأكملها حتى الرمق الأخير.
قصة كتب حازم من دون أن يدري أجمل رثاء لها في كتابه الأخير "هذه ليست سيرة". أو بالأحرى، كتب خوفه من رثائها، فحاول في "صيغة النفي" أن ينزع عنها اكتمالها. أن يفتحها على أفق لا يستوجب رثاء. أن يبدّل تسلسل الفصول وسط السبل المتعرّجة التي فرّقت بعضَ مسالكها الخياراتُ والأحداث والأمكنة...
لكن السيرة اكتملت، وأسدلت فصولها على موت موحش وعلى فقدان أخير.
*****
مضى جوزف سماحة. ترك غصة في القلب. ترك دموعاً مخنوقة. ترك حزناً يصعب التقاطه وحصره في مكان ما في الروح. حزن هارب، يشبه هروب نظراته حين يربكه أمر ما، حين يشعر بذنب أو بضيق، حين تختبئ عيناه خلف نظاراته أو حين تجول على المكان تجنباً للقاء الأعين والبوح بمشاعر غير "دقيقة" ترافق الكلام الدقيق


مضى جوزف. ترك حبره وقلمه وأحلامه وخيباته وتناقضاته وضحكاته. وترك فراغاً كبيراً. لن يملأه شيء. لا الحزن ولا الخلاف ولا الذكريات، ولا حتى اكتشاف عمق الحب له ولابتسامته الحيية.
زياد ماجد

Monday, February 9, 2009

الى صديق متردّد

يعيدُنا الفرز السياسي والطائفي الحاد في لبنان اليوم الى مجموعة بديهيات، تضيع أحياناً في غمرة الأحداث وتسارعها، أو تغيب نتيجة بعض الخطابات النارية وحملات التخوين والتهويل والابتزاز المرافقة لها:
- الأولى، أننا منذ 14 شباط 2005 بين خيارين. خيار سلم أهلي و"شبه دولة" مستقلّة ومستقرّة (ولو على هشاشة)، وخيار انخراط في معركة إقليمية مفتوحة على كل أصناف المزايدات، تتحوّل مع الوقت صراعاً داخلياً بامتياز ودماراً شاملاً تصعب قيامتنا من بعده.
- الثانية، أننا مخيّرون نتيجة التحالفات الخارجية للكتل الطائفية اللبنانية الكبرى بين ارتباط سياسي واقتصادي يشمل أكثر دول الغرب والشرق (على مفاضلها ومساوئها) ويؤمّن لنا حياداً نسبيّاً يقينا تبعات أي صِدام في المنطقة، وبين ارتباط سياسي وحربي يضمّنا (تحت ذريعة الممانعة أو المقاومة) الى دولتين أهمّ ما يمكن أن تمدّانا به هو السلاح للقتال دفاعاً عن نظاميهما ومصالحهما، وإن تمكّنا على طريقنا، للدفاع عن خرابنا. 
- الثالثة، أننا صرنا منذ بدء مسلسل الاغتيالات في بلدنا نواجه احتمالين: احتمال مواجهة القاتل وتحمّل المزيد من الخسائر الى أن نجبره على كفّ شرّه عنا والاستكانة لمقتضيات "العدالة" الدولية، أو احتمال استسلام للقاتل وإذعان لشروطه لن يوقف بالضرورة جرائمه ضدنا.



- الرابعة، أننا مخيّرون بين لبنان عرفناه قبل العام 1975، فيه متّسع من الحرية والازدهار ولو مع زبائنية وفساد وتوتّرات، وبين لبنان عرفناه على جرعات دموية وأهوال وكوارث متنقّلة منذ العام 1975 وحتى اليوم.
- الخامسة، أننا أمام مسارين. واحدهما يتلمّس طائفية تتّسع على قبحها (وعجزها عن إيجاد تسوية نهائية للنزاعات) للتنوّع والتنافر والتآخي. وثانيهما، يعتنق طائفية تُقحم الغيب في شجون الدنيا وشؤونها محوّلة إياه سبيلاً مجتمعياً يُفترض بالجميع التسليم له أو الإقرار بتفوّقه وعلوّ كعبه.
- السادسة، أننا أمام مشهدين. مشهد يضمّ قوى متنوّعة في خلفياتها وحساباتها، وآخر يقوده حزب مدجّج بالايديولوجيا والسلاح هدفه الإمساك الأحادي بسياسة الدولة الخارجية وبقرارات الأمن والحرب والسلم فيها.
أمام هذه البديهيات، هل يمكن أن نتردّد في الاختيار؟
وأمام هذه البديهيات، هل يمكن أن نكتفي بالقول إن المعسكرين لا يملكان مشروعاً إصلاحياً وإنهما يتساويان طائفيةً، فننكفئ؟
بالطبع لا.
لكن علينا في الوقت عينه، ومع لحظة الاختيار البديهي والضروري، الاعتراف بظرفيّة ما اخترنا وبحدوده، وبحقّنا في مساءلته وعدم التسليم له في كل شيء.
وعلينا أيضاً التأكيد على أن واجبنا يكمن في التأسيس لما يتخطّى البداهة الظرفية نحو ما نتوق إليه من دولة حديثة وعادلة أسسها المواطنة والمساواة أمام القانون. دولة قادرة على تجنيبنا كل عقدين من الزمن خيارات كالتي نقف أمامها اليوم.
زياد ماجد

Friday, February 6, 2009

عنوانان بعد حرب غزة

قد يكون مفيداً التذكير بعد انتهاء "حرب غزة" الأخيرة بعنوانين قديمين مستجدّين، نراهما مهمّين في منطقتنا المنكوبة

- العنوان الأول، يخصّ الفلسطينيين وحدهم في صراعهم مع الاحتلال الاسرائيلي، وهو مرتبط بضرورة تمسّكهم باستقلالية قرارهم الوطني الذي دفعوا في سبيل نيله الثمن الغالي، مبحرين بين عواصف الأنظمة العربية ومحاولاتها الاستيلاء على قضيتهم واستخدامها في الصفقات والمفاوضات، وتصدّوا في سبيل حمايته، في شتاتهم اللبناني، لحروب النظام السوري وحلفائه عليهم. فهذا القرار المستقل هو ما يحميهم من انكشاف القضية الفلسطينية على صراعات المحاور في المنطقة ومحاولة كل محور توظيفها لصالحه، وهو ما يوفّر لهم شروط إدارة معركتهم مع الاحتلال من دون ساعات ضبط تحدّد أوان التصعيد وأوان الاستكانة وفق توقيت عواصم لا شأن لها بفلسطين وبتحرّرها. وذلك يتطلّب حكماً عكس ما تنادي به قيادة "حماس" السورية الإقامة والقرار من إنهاء لمنظمة التحرير. فالمطلوب هو تفعيل المنظمة وتجديدها وتطويرها لتبلور برنامجاً وطنياً فلسطينياً لانتزاع الحرية وبناء الدولة وعاصمتها القدس.

 - والعنوان الثاني، يخصّنا نحن كلبنانيين وكعرب. وهو مرتبط بأولوية معركة الديمقراطية في مجتمعاتنا على ما عداها من ناحية، وأهمية مصالحة المعركة هذه، مع تلك التحررية التي تجسّدها القضية الفلسطينية من ناحية ثانية. ولا يكون ذلك، لا من خلال القفز فوق المصالح الوطنية لكل بلد ولا من خلال التواطؤ مع الاستبداد والظلامية أو إغماض العين عن الأخطاء القاتلة التي ترتكبها القوى المتحركة فلسطينياً بحجة مقاتلة إسرائيل أو سواها. فدول ومجتمعات عربية مستقرّة وحرّة أكثر قدرة على دعم فلسطين وقضيتها من أي كيان مريض وممزّق تقمعه أجهزة مخابرات، ويعرّضه الاستبداد للحروب الأهلية، وتقفل عقول أبنائه منظومات فكرية هي في ذاتها عدوّة لشعبها ولمستقبله وقضاياه.
على أن ذلك يجب ألاّ يؤدّي الى وضع الديمقراطية والحرية والتقدّم الاجتماعي، في الموقع المناقض للالتزام بالقضية الفلسطينية وبدعم الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً وقانونياً وثقافياً وإعلامياً في مواجهتهم الاحتلال. فالعلاقة بين الاستقلال والديمقراطية، وبين التحرير وبناء الدولة "الحديثة"، على تعقيداتها وصعوباتها في منطقتنا، ليست مسائل أخلاقية وقانونية فقط، بل هي أيضاً مسائل سياسية تمسّ المصالح المادية مباشرة. ذلك أن الاحتلال، في ما يخلقه إجرامه من قهر ومظلومية وإحباطات، يساهم في تسميم الوعي العام في كل المنطقة، ويؤمّن مقوّمات موضوعية لأنصار التيارات الاستبدادية والتكفيرية المتذرعة بفلسطين لمقاتلة مجتمعاتها والعالم....
هما عنوانان إذن، يختصران عناوين عدة. ولا مفرّ من التصدّي لهما، كما لغيرهما، إن أردنا وقف التهتّك والتراجع الذي يصيب القضية الفلسطينية ومعظم قضايا التقدّم والحرية في بلادنا.
 زياد ماجد

Monday, February 2, 2009

الذاكرة الانتقائية


عبّر خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الأخير، في ما خصّ قضية الديبلوماسيين الإيرانيين الأربعة المفقودين، عن مفارقات تعكس ثقافة سياسية لا تكتفي بتطهّرية وبتعالٍ على الأحياء، بل تعمد أيضاً الى التنقيب في ذاكرة، هي إنتقائية أصلاً، بحثاً عن مفقودين أو أموات لتوزيعهم مراتب، ثم لإدانة الخصوم من خلالهم

بهذا المعنى، يعمد السيد نصر الله الى استذكار ضحايا أربع لجريمة لا شك وحشية، لكنه يغفل أن فظاعتها كانت جزءاً من فظاعات شهدتها الحرب الأهلية اللبنانية، ولم يقصّر أكثر أطرافها في ارتكابها. فإلى جانب آلاف المفقودين اللبنانيين الذين لم يُعرف لهم مصير واضح، أو مقبرة جماعية واحدة، فُقِد واغتيل في لبنان عشرات الأجانب، من بينهم الايرانيون الأربعة، ومن بينهم أيضاً ديبلوماسيون وصحافيون وباحثون، نُقلت منذ سنوات قليلة رفاة أحدهم، ميشال سورا، من الضاحية الجنوبية لبيروت الى باريس

وإذا كان الاستذكار الانتقائي لأربع ضحايا يستهدف اليوم جهة سياسية بعينها (هي بالمناسبة الوحيدة التي حوكمت بعد الحرب ودفع زعيمها دون سواه ثمناً لبعض ماضيها، ثم اعتذر مرّتين فيما لم يُسمع لغيره، إذا ما استثنينا وليد جنبلاط، أي اعتذار)، فإن في خلفيّته (أي الاستذكار) ما يُحيل الى زعم لطالما كرّره حزب السيد نصر الله دفاعاً عن ملكيّته السلاح، ومفاده عدم انخراط الحزب في الحرب الأهلية اللبنانية. وفي ذلك، وبمعزل عن تهافت الزعم نتيجة ما نعرفه عن حقبة الثمانينات - إشتباكات محور مار مخايل (على خطوط التماس بين "المنطقتين")، ومعارك مشغرة والبقاع الغربي (مع الحزب القومي)، وملاحم الضاحية وإقليم التفاح (مع حركة أمل)، وما يُحكى عن المسؤولية في الاغتيالات التي استهدفت كتّاباً وناشطين شيوعيين - إدّعاء تسامٍ وترفّع فوق المواجَهين، أو اعتبار مواجهتهم جزءاً من المقاومة لإسرائيل وأعوانها المتبدّلين في كل زمن ومنطقة!
وإذا عطفنا على ما ذُكر، ما يردّده السيد نصر الله، من تقييم لجمهوره يجعله "أشرف الناس"، ومن تصنيف للبشر في تعاطيهم مع الاحتلالات بين "مقاومين وحائرين ولا مبالاين وانتهازيين وعملاء"، وصلنا الى منظومة "فكرية" تتعاطى مع الأفراد، أحياء وأموات، إنطلاقاً من إسقاطات صارمة لا تمتّ بصلة الى فلسفة المواطنة والى فكرة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات في الدول "الحديثة".
بهذا، تصبح القسمة التي يعتمدها السيّد، على تبسيطيّتها وخطورتها، قاعدة لقراءة الماضي والحاضر والمستقبل، ضمن ثابت وحيد، هو موقف حزبه في كل حقبة من سائر الأطراف. وهكذا، تُخلع على البعض عباءات الشرف، وعلى البعض الآخر أقنعة العمالة، فيما تتبدّل أثواب البقية انطلاقاً من مدى انصياع لابسيها للحزب وخطاباته...

وبالعودة الى الديبلوماسيين الإيرانيين الأربعة، ينبغي من دون تردّد القول إن كشف مصيرهم ضروري. لكن كشف مصير جميع مفقودي الحرب الأهلية، كما الاعتذار الصريح منهم ومن ذويهم، ضروري أيضاً. ذلك أن المصالحة الفعلية بعد الحروب، مع الذات ومع الآخر، تتمّ من خلال الاعتراف بالأخطاء والخطايا والقبول بالتشارك في تحمّل المسؤوليات، وتحويل الذاكرة من مصنع للبغضاء الى مكمن للمسامحة.
أما التطهّر وتعريب الناس كما الموتى والمفقودين بين خيّر وشرّير، ففوقيّة تتخطّى وباء الغرور الى خطر نكء جراح واستثارة عصبيّات نحن اليوم أبعد ما نكون عن الحاجة إليها.
زياد ماجد