Saturday, December 27, 2008

في مأساة غزة

تجسّد حال غزة اليوم المآل الحزين للقضية الفلسطينية بكل تعقيداته وتداخل المستويات الوطنية والاقليمية والدولية والثقافية المفضية إليه
فغزة اليوم هي ضحية:
- الهمجية الاسرائيلية وجرائم حربها المنتهكة الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بالصراعات ومسؤوليات الجيوش والاحتلالات.
- السقوط الاخلاقي "الغربي" و"الأممي" العاجز عن التدخل ووقف المجازر، والمكتفي بالدعوة الى ضبط النفس رغم صور الأطفال وسائر المدنيين الملطخة بالدم.
- العجز العربي المعطوف على قدر كبير من اللامبالاة، أو من التعويض عن الضعف بالشتم وأهازيج الاستنكار، وذلك على صعد الحكومات والمعارضات والمواطنين "العزّل من الانتماءات" على حد سواء.

لكن غزة هي أيضاً ضحية:
- الانقسام الفلسطيني وغياب الرؤيا والبرنامج الوطني القادر على بلورة مواقف واضحة تجاه سبل إدارة معركتي الاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
- الانقلاب الذي اعتمدته حركة حماس في القطاع وإنهائها كل دور مفترض للسلطة ولحكومة الوحدة الوطنية التي كانت تترأسها بعد فوزها بالانتخابات التشريعية.
- التحكّم السوري الايراني بخطّي التصعيد والتهدئة "الحماسيين" وفقاً لأولويات لا تمتّ بصلة للمصالح الفلسطينية ولتوازنات القوى.


على أن الأخطر من كل المظالم والتوظيفات الخارجية والقسمات الداخلية، هو أن غزة هي اليوم ضحية لافتتان بعض القوى فيها بالغيب، ولربط السياسة والحق في مقاومة الاحتلال "بثقافة الشهادة" وبرهانات من خارج حقول المعقول أو الضروري أو الممكن.
فأن يكون  الموت غايةوأن يُعدّ مقتل مئة إنسان فلسطيني نتيجة إطلاق صواريخ بدائية على المدن الاسرائيلية المحيطة بالقطاع انتصاراً، وأن يصبح "الجهاد" هدفاً بذاته يرافقه خطابٌ يرى في فلسطين "وقفاً إسلامياً" وسلوكٌ إعلامي ينفّر الصديق قبل العدوّ من أصحابه، فالأمر يصبح مأساوياً، ولا يقلّ مستقبله سواداً عن سواد الملابس المنتشرة في نواحي القطاع معلنة يتماً هنا وترمّلاً هناك.

هل يمكن البحث في السياسة وفي المصالح وفي التكتيك وفي التفاوض وفي وقف العدوان حين يكون الغيب هو الثابت الوحيد وكل ما عداه متغيّر؟
لا نظن ذلك.
وفي أي حال، لا يسعنا إلاّ القول إن ما تبقّى من القضية الفلسطينية يكاد يضيع اليوم، وإن الصمت تجاه المسؤولين عن تحويل نضال تحرري "بشري" الى هلوسات "ميتافيزيقية" لا يقل سقوطاً عن الصمت تجاه الجرائم الاسرائيلية.
زياد ماجد

Friday, December 26, 2008

سمير قصير: الأسى معطوفاً

 ليست الصداقة ولا الشوق ولا التعب ولا استذكار بعض النقاشات والتعليقات أو تخيّل مثيلاتها في لحظات درامية، ولا حتى الغياب أو الحسرة على موت، هي وحدها ما أطفأ "زاوية في القلب" منذ 2 حزيران 2005.
هو الظلم على الأرجح. الظلم الحقيقي أو الأقصى، الذي لحق بسمير، والذي لا ظلم بعده. ظلم القتل. أن يُقتل لأنه جهد طيلة سنواته الخمس والأربعين ليتعّلم، ليقرأ ويفكّر ويكتب ويبحث ويحب ويحيا وينشط دفاعاً أنيقاً وثابتاً عن مبادئ وقناعات. ليحاضر بطلاب وطالبات ويحرّضهم على طرح الأسئلة ورفض المسلّمات واعتناق الحرية.هو الظلم حتماً. ظلم أن تكون الكلمة مدعاة سفك للدماء. أن تكون الشجاعة في قول ما يفكر به المرء مدعاة إعدام له على يد مُرتزق لا يعرف ضحيته ولا من كان يرصد ويراقب. مرتزق بليد لم يقرأ ولم يسمع ولم يفهم ولم يشاهد فيلم "حياة الآخرين" الذي دفع العساس الشغوف بالتنصت على طريدته الى التعاطف معها والانبهار بها والسعي لحمايتها. مرتزق وضيع نفّذ لمصلحة غيره (العارف من جهته تماماً من أردى) جريمة هي أشبه بالمجزرة. أو بالأحرى هي مجزرة، ضحاياها عشرات اللحظات والإنجازات والإبداعات والأحلام. وضحاياها أيضاً أحياء خسر كل منهم بعضاً من ذاته فيها.
هي المجزرة إذن. وهو الشعور المتولّد عنها بالقهر. قهر أن يكون مآل مثقف أكاديمي وصحافي وسياسي اختزل هويات لبنانية وسورية وفلسطينية وفرنسية وحاول مصالحات بين عروبة ونهضوية، وبين يسار وديموقراطية، وبين حرية واستقلال ينافيان كل عنصرية، أن يكون مآله هو نفسه عنوان كتابه الأخير والبليغ "تأملات في شقاء العرب". أن يكون الشقاء نهاية مسيرته.

وهو الحزن أيضاً. الحزن على أمكنة وأحداث لم يعد مجدياً سنة بعد سنة كتابة تقارير حولها وادّعاء مخاطبة بواسطتها للراحل الأعزّ. ليس لأن لا شيء يقال، وليس لأن الأمور سواد كلها، وليس لأن لا ضرورة لمصارحة سمير حول خيبة من رفاق هنا وافتخار بأصدقاء هناك، بل لأن وتيرة الأحداث لم تهدأ ولم تترك مجالاً لالتقاط الأنفاس. دارت وتسارعت واشتدّت وأعادت بالمحصّلة تأكيد بداهات اعتنقنا بعضها وفاتنا بعضها الآخر.
بداهات عن الحرية بصفتها العنصر التأسيسي الاول لأي تعاقد في بلاد مستقلة، استقرار الأمور فيها، ولو على نقصان في ما نشتهيه من قيم، ولو على عيوب جسام، أهم بألف مرة من كل غليان وصدام وجهاد ومقاومة لن تجلب في ظل بهتان مدّعيها وتفكك مجتمعاتنا سوى التهتك والانحطاط. وبداهات عن النفس الطويل والصبر والحفاظ على الاستقلالية والحس النقدي والاستقامة في الموقف ولو من موقع صريح ومحسوم، ليس لتناقض بين "المثقف والسياسي" ولا لطلاق بين الواقعية والمبادئ على ما يردّد البعض بخفة، بل احتراماً للعقل والذات والارادة وقيمة "النزاهة" الفكرية قبل أي شيء آخر.
هو الأسى معطوفاً على كل ذلك. الأسى لأن كثيراً من الأمور صارت مرتبطة بـ"الما قبل" و"الما بعد". والأسى لأن اللحظة التي تستند إليها "القبل" و"البعد" هي لحظة الموت، لحظة خطف سمير.
على أن للقتل أيضاً فعلاً آخر. يتخطّى الأسى والحزن والقهر. يحيل الى إرادة تحدّيه. تحدّي صانعه بنفس التصميم الذي جعله يخطّط للقتل ويقتل. يحيل الى الرغبة في الاستمرار. في العمل، في التذكر، وفي الوفاء. ففي هذه الأمور ما يعيل على الشعور بأن الأثر ما زال ممكناً بعد الرحيل. بأن الأفكار تبقى قائمة وجوالة، وبأن عشق بيروت مدينة للحياة والبحر والغيوم يمكن أن يتسلّل الى الناس حين يعيدون اكتشافها بأسطر خطّها مؤرخها الذي قضى فيها وفي سبيلها. صارع التنين القادم لافتراسها، فكتب بدمه واحداً من فصولها.
****
اليوم، بعد سنوات ثلاث على رحيل سمير قصير، تمر صور وكلمات وأصوات ارتبطت بذاك اليوم المشؤوم. تتداخل وجوه أهل وأصدقاء ورفاق وأحبة يوحّدها الهول... ثم يحضر طيف جوزف سماحة بحزنه وصمته ونظراته الهاربة، وببوحه الخفر للائم: "ما ذنبي أن قاتلي يستخدم لغتي"؟
واليوم، بعد ثلاث سنوات على الرحيل، يمرّ شريط حياة سمير. يبدو لنا وهو يكثّف الأشياء والحجج ويستعجل الوقت ليغنم بسبق معرفي. ليبتسم لفكرة، لكلمة، لنظرة.
يبدو لنا لكثرة ما كدّ وكأنه عاش دهراً، بل قرناً. ويبدو لنا ماشياً ينظر الى الأفق. ينظر الى الزمن القادم، الى الهواء والحركة التي لا بد ستنحبس في أقبية من سرق عمره. من كره بيروت ودمشق والقدس بقدر ما أحبّها هو. من احتقر الحرية بقدر ما تنفسّها هو، وبقدر ما سنتنفّسها جميعاً حباً له وتعلّقاً بما أحَبّ.
زياد ماجد

Thursday, December 25, 2008

المدوّنات والتزوير: "فيلكا" نموذجاً

ليس في مبدأ الحملات الإعلامية والشتائم والتشهير جِدّة. فالأمر شائع استخدمته في السابق أنظمة وأحزاب وتيارات وأشخاص من خلفيات وانتماءات مختلفة، بهدف الابتزاز أوالتضليل أو تلطيخ السمعة أو التشويش أو خلق القلاقل، أو جميعها معاً

وبهذا المعنى، لا جديد في ما يعتمده البعض اليوم في منابره الإعلامية وصحفه من حملات على خصومه أفراداً وجماعات على أن الجديد يأتي راهناً من الإعلام الإلكتروني، أو من الإنترنت، بحيث صار بعض المواقع والمدّونات حقل تجارب لحملات الهجاء وتحوير الكلام، يطوّر مفاهيم التزوير وأساليبه، ويوغل في قباحة المضمون ولغته إيغالاً صفيقاً. ومردّ ذلك، سهولة إخفاء هوية المالك للموقع أو المدوّنة وتبييض انتمائه (على نحو ما تُبيّض الأموال)، وحتى ادّعاء انتماء يناقض بمسمّاه (وبمؤدّيات هذا المسمّى السياسية) انتماء الجهة الفعلية المتّخِذة له. فخلف المواقع والمدوّنات، إن لم تكن ممأسسة أو مشخصنة، لمسات أشباح، تتناقل الألسنة المنسوب إليها والسؤال عن آخر مستجدّاتها، في "السرفيس" أو عبر الهاتف أو في الصالونات، معتمدة إسماً لها يبدو غريباً، ثم يصبح صفة أو نسبة لوصم موقع بالفضائحية أو الاستخباراتية؛ كما يتحوّل الإسم الى مذمّة تُطلَق على شخص أو طرف أو أسلوب وضيع في الكتابة والتلفيق.


ما يسمّى بفيلكا إسرائيل
في هذا السياق، تبرز مدوّنة "فيلكا"، أو "فيلكا إسرائيل" كما يسمّيها المسيّرون لها. وهي مدوّنة وُلدت "رسمياً" حين نقل "حزب الله" عنها بالتواتر، عبر مواقع إخبارية تابعة له أو مؤازرة، تلفيقات تطال بعض الكتّاب والسياسيين المعارضين له وللنظام السوري.
تلا ذلك نقل العديد من مواقع الانترنت والوكالات، تواطؤاً وسوءَ نيّةٍ أو تصديقاً ساذجاً "لهوية إسرائيلية"، ما سُمّي ملفات منشورة في "فيلكا" هي أقرب الى الهلوسة السمجة منها الى أي شيء آخر. وفي ما هو أبعد من فعل نقل الموبقات المشار إليها أو من أسباب هذا النقل، يشي سلوك بعض الناقلين بأمور لا تخلو من دلالات. الاولى، محاولة إسباغ صدقيّة، ولو صبيانية، على "الخبر" المنقول طالما أن موقعاً "للعدو الصهيوني" كرّره، والعدوّ المذكور "ماكر ذو معلومات مؤكّدة"، وهو "ليس مع حزب الله وسوريا، فما مصلحته في التلفيق ضد معارضيهما"؟ والثانية، تعفّف مفتعل عن الانغماس في الشتم، وتركه للأدوات للتنصّل منه عند الضرورة. والثالثة، محاكاة مناخ شعبي معمّم في لبنان والمنطقة، يميل الى التعاطي مع الشأن العام على نحو يشبه النميمة، أو المشافهة الناقلة للفضائح والاختلاقات وما يرافق ذكرها من "متبّلات" وحاجات مبالغة تدفع الى المزيد من الفضول، والى المزيد من تأكيد قباحة الخصم بهدف الاستسلام الكسول الى ابتسامات الرضا على الذات وعلى الموقف الصحيح الذي تتّخذه منه (أي من الخصم) في الصراعات الدائرة.
وإذا كانت محاكاة المناخ الشعبي وتأجيج تعلّقه بالاتهامات والأحكام قد تحوّلت الى سمات الأداء السياسي والإعلامي في مراحل الاحتقان، وهي مطَمئنة للأنصار المباشرين والمتناكفين وليقينهم السياسي، فإن التلطّي خلف هوية إسرائيلية لترويج مقولات معسكر لبناني يقوده حزب الله، ينبغي أن يُقلق بعض المصدّقين من الجمهور الأوسع، وأن يهزّ قناعاتهم. فحقد "الفيلكاويين" على خصوم الحزب يبدو بلا حدود، ويتخطّى منطق السؤال عن "المصلحة من ورائه"، ليلامس البحث في أسباب التطابق الكامل (حتى في الأسلوب والركاكة اللغوية) بين تعليقاته اليومية على الأحداث، وبين آراء سياسيين وكتبة مقالات تُنشر في صحف أو على مواقع حزبية وجهوية منتمية الى اليمّ المقاوم وجبهته. وهذا ما نظنّه بليغ الإشارة الى مستوى "الثقافة" التي يريد تعميمها هؤلاء.


في ما هو شخصي
 وبالعودة الى مدونّة "فيلكا"، نشير الى إنها في ما تعكسه من سوقيّة وشتم وتخوين وما تنسجه من أكاذيب، لا تكتفي بانتحال "الجنسية الإسرائيلية" نأياً بنفسها عمّن تخدم (وأسماء العاملين فيها باتت مُتداولة)، بل تعتمد أسلوباً يقوم على نحل بذاءات ونسبها الى كتّاب. ولعل تجربتي الشخصية مع هذه المدوّنة، لافتة ومقزّزة في الوقت عينه. فهي لافتة إن أراد المرء قياس العمر العقلي لمحاولي نسب الكتابات لي (وإقرانها غالباً بصورتي وبألقاب "رفاقية" وأكاديمية)، ولافتة أيضاً إن أراد إعمال علم النفس لفهم أسباب "الهوس" الأسبوعي بتلبيسي مقالات أو تصريحات أو مقابلات مشينة (صار عددها 19، وهي على الأرجح الى ازدياد) على أمل النجاح في تلطيخ سجل أو توتير علاقات مع مذمومين "على لساني"، بعضهم أصدقاء وبعضهم الآخر صحفيين وسياسيين وديبلوماسيين وعسكريين لا أعرف أكثرهم شخصياً (ناهيك بكيل الاتهامات للحبيب سمير قصير "بقلمي"). لكنها مقزّزة لجهة تظهيرها ليس أخلاق المخبرين الصغار في المدوّنة، بل أخلاق الجهات المتبنّية - أو على الأقل- المروّجة لهم، خاصة وأن الأمور لم تقف عند هذا الحد المازج التزوير بثقل الدم. فقد عكس بعض المنسوب إليّ (كما المتّهم به سواي) رغبة واضحة في التحريض الرخيص من خلال توقيع شتائم للإسلام والمسلمين ونبيّهم كما للسلفيين والسعوديين وساستهم بإسمي، أو ادّعاء مشاركة لي في اجتماعات مختلقة في الأردن تارة وفي فرنسا تارة أخرى، وإبراز صورة على أنها "إثبات" لوجودي في لقاء مع إسرائيليين، هي في الواقع مأخوذة عن موقع معهد العالم العربي في باريس، حيث شاركتُ في ندوة الى جانب باحثَيْن لبنانيّين وآخر فرنسي وبإدارة ناشر  ومؤرّخ سوري، يتشرّف المرء بصداقتهم ومجاورتهم.
كما عكس، من خلال آخرما نقله موقع سوري (موقع "عكس السير") عن "فيلكا"، محاولة توظيف سياسي لمقال مزّور والتشديد على كون كاتبه المزعوم (أي الكاتب الفعلي لهذه السطور!) "معادياً لسوريا" (وبالتالي لا غاية له في الدفاع عنها) من أجل اتهام آل الحريري بتحريك فتح الإسلام ثم لصق جرائم إرهابييها بنظام دمشق.


عن إنجاز وحيد... وعن الردّ
في المحصّلة، يمكن القول إنه لا يسَجّل للانحدار الذي تمثّله "فيلكا" والقابعين خلفها سوى إنجاز وحيد: جعل المشتومين أو المنتحَلة شخصيّتهم في حيرة من أمرهم بين الاضطرار الى التوضيح والرد على الأضاليل، والوقوع بالتالي في فخ الشتّامين و"الترويج" غير المباشر لهم، وبين التجاهل ترفّعاً عمّا قد يبدو سجالاً مع من لا قدْر لهم ولا قيمة، والقبول تالياً باحتمال أن ينطلي تزويرهم على البعض من القرّاء أو المهتمّين. وفي أي حال، ومع نشر هذا المقال، لا بد من التأكيد لمن هم خلف "فيلكا" ولكل من يَنقل عنها، أن ثمة ما قد ينفع أكثر من الردّ أو التجاهل، وهو القوانين التي ترعى المدوّنات ومواقع الإنترنت، والتي يمكن اللجوء إليها "للعلاج"... وهذا ما لن يتأخّر
زياد ماجد